ما أحوجنا إلى البصيرة زمن الفتن والمحن بمعرفة طبائعها وخصائصها والذي ينبغي عندها حتى نعرف كيفية النجاة منها، من خلال هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذا هدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
فإن الفتن تأتي كالسحب المتراكمة، وتتواتر عمياء صماء مطبقة، كقطع الليل المظلم، أو كالأمواج المتلاطمة، تطيش فيها العقول، وتموت فيها القلوب، إلا من عصم الله عز وجل.
ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي هو خير الهدي- الاستعداد للفتن قبل نزولها، بالتسلح بالعلم والبصيرة، مع العمل والاجتهاد، والاستعداد ليوم المعاد، عسى أن نستيقظ من الغفلة، ونغتنم المهلة قبل المباغتة والوهلة.
فالشرع الحنيف قد أولى الفتن قدرًا عظيمًا من الاهتمام، ولقد حفلت دواوين السنة بالنصوص التي تحذر منها، فهي واقعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كونًا وقدرًا، ولابد من أن يقع ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أخبر، وعليه فلابد من التبصير بها، والاستعداد لها، بل يجب مضاعفة الحذر منها في عصرنا؛ لأننا صرنا أقرب إلى أشراط الساعة مما كان عليه المسلمون منذ قرون.
فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، ولمن ابتُلي فصبر) السلسلة الصحيحة.
ولذا قرر أهل العلم أن (الحذر من الشر باب من أبواب الخير)؛ فقد قال حذيفة رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني).
فلاشك أن الدفع خير من الرفع، والتخلية مقدمة على التحلية، والوقاية خير من العلاج، وقد تبين لنا ها هنا منهج حذيفة رضي الله عنه في الاستبصار بالفتن.
فإن للفتن طبائع وخصائص تعين على الاستبصار بها من أجل توقِّيها وحسن التعامل عند حدوثها، فما أكثر الفتن التي وقعت في دنيا الناس بسبب غياب البصيرة بهذه الطبائع، وجماعها:
– أنها تتزين للناس في مباديها، حتى تغريهم بملابستها والتورط فيها.
– أنها تذهب بعقول الرجال، وتستخفهم ببُداءاتها.
– أنها إذا جففت منابعها، وسُدت ذرائعها، وحُسِمت مادة أوائلها، سَلِمت الأمة غوائلها، وكُفي الناس شرها.
– ومن طبائع الفتنة أنها متى ما وقعت؛ فإنها سرعان ما تتطور، وتخرج عن حدود السيطرة، حتى إنها لتستعصي على من أشعلوها إن حاولوا إطفاءها.
وليعلم أن الناس يتفاوتون في مدى استبصارهم بحقيقة الفتنة، واستجلاء عواقبها، تبعًا لما أوتوه من التقوى والفقه.
فالقلب كالعين في إبصارها، فتجد عينًا لا تبصر البعيد، وأخرى لا تبصر بمجرد وجود ضباب طفيف أو غبار خفيف، فضلا عن أن تكون في ظلام، فإبصار القلب تابع لقوة الفقه ونور الإيمان ومقدراهما.
ولذا قد شبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الفتنة بقطع الليل المظلم، أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء، وما لبث حذيفة رضي الله عنه يذكرنا أنه: (لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل).
وفي وقت الفتن ما أحوج الناس إلى العلماء الحكماء أرباب الرسوخ، الذين يبصرون الناس بحقيقتها، فذهابهم ولاشك مقترن برواج الفتن، فالعلماء للناس كالمصابيح، تضيء لهم الطريق، فالدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء، فمهمة المبصرين هي التبصير، ولاسيما في أوقات الفتن؛ وعلى إثر ذلك تجد الجهلاء لأهل العلم أعداء.
ومن المهمات الثبات في الفتن، ذلك أن العجلة هي أم الندامات، ولذا قال قتادة بن دعامة رحمه الله: (قد رأينا والله أقوامًا يسرعون إلى الفتنة، وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت إذ الذين أمسكوا أطيب نفسًا وأثلج صدرًا وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها..).
فحري بنا أن نعرف أسباب النجاة من الفتن، والتي من أهمها: التثبت من الأخبار ووجوب حفظ اللسان، واستحباب الصمت إذا فقد العلم ففيه السلامة من آفات الوقت، ومن أجل ذلك الحرص على الدعاء والعبادة.
قال تعالى: “أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ”.
قال ابن القيم رحمه الله: “فالكفاية التامة مع العبودية التامة والناقصة مع الناقصة فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه” الوابل الصيب.
ومن أعظم الطاعات ومن أجل أمور الديانات خاصة في زمن البلايا والشبهات دعاء الله جل وعلا والتقرب إليه بالصلاة، فإن الدعاء “من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب” الجواب الكافي.
روى مسلم في حديث طويل قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن”.
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: “نعوذ بالله من سوء الفتن” أخرجه البخاري في الفتن باب التعوذ من الفتن.
وعن هند بنت الحارث الفارسية أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ النبي عليه الصلاة والسلام ليلة فزعا يقول: “سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن! وماذا أنزل من الفتن! من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة” رواه البخاري في كتاب الفتن.
قال الحافظ في الفتح عند شرح هذا الحديث فيه: “الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة ولاسيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له”.
خاصة أن دعاء المرء زمن الفتن كثيرا ما يكون في حالة الاضطرار والله جل وعلا قال: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ”.
قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير الآية: (“أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ” وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللُّجئ والتضرع إلى الله) محاسن التأويل .
ولذلك قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله: “كان أبي -أي زمن فتنة خلق القرآن- يقرأ كل يوما سبعا، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو”اهـ.
ومما يدل على أهمية الدعاء زمن الفتن كذلك أنه سبيل لتخفيفها.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “والسعيد من ذلَّ لله وسأل العافية فإنه لا يوهب العافية على الإطلاق إذ لا بد من البلاء، ولا يزال العاقل يسأل العافية لتغلب على جمهور أحواله، فيقرب الصبر على يسير البلاء” صيد الخاطر.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: “أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام” صحيح الجامع.