الشعر في أدنى معانيه منظوم الكلام بوزن وقافية، وأرفع معاني الشعر أنه العلم، تقول العرب: ليت شعري أي ليتني علمتُ، ثم صار علما بالغلبة على منظوم القول كما صار الفقه الذي هو العلم والفهم عَلمًا بالغلبة على الأحكام الشرعية العميلة؛
وتصديق ذلك في قول عمر رضي الله عنه: كان الشعر علمَ قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فكانوا لا يعتبرون منظوم القول شعرا إلا إذا حُمِّل عِلما وشرُف معنًى ونُخل لفظا، فناسب هذا أن يكون الشاعر لسانَ قومه الدابَّ عن عرض قبيلته بلسانه وأن تقام لنبوغه فيهم الولائم.
ولتعظيم العربِ أمرَ الشعر كانوا ينهون صغارهم عن نظم الشعر وقوله إلا إجازة منهم، وذلك مثلُ ما روي عن زهير وابنه كعبا، مخافة أن يروى عنهم ما يعاب عليهم، وكانوا لشدة خشيتهم وحرصهم ألا يروى عنهم إلا ما كان ذا شأن وبال ينتخلون أشعارهم حولا كاملا قال سويد بن كراع:
أَبِيــتُ بِأَبْـوابِ القَـــــوَافي كَأَنَّــــــمَا
أُصَادي بها سِرْبا مِنَ الوَحْش نُـزَّعَا
أُكَـالِئُهَا حَـــتَّى أعَـــــرِّسَ بَعْـــــدَ ما
يكُــــونُ سُحَـــــيْرا أَوْ بُعْيَدُ فأَهْجَـعا
إِذَا خفْـــتُ أَنْ تُــرْوَى علَّي رَدَدَتْتُهَا
وَرَاءَ التَّــــرَاقي خَشْـــــيَةً أَنْ تَطَلَّعا
فأدنى معاني الشعر أنه كلامٌ، وإذا كان كذلك فكل حسن في الكلام حسن فيه وكل قبيح في الكلام قبيح فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلامِ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلامِ، وقَبِيحُهُ كَقَبيحِ الْكَلامِ).
فمن أوصاف الكلام حسنًا الصدقُ ومن أوصافه ذمًّا الكذب، وكان ينبغي أن يُنقل هذان الوصفان حُسنا وقبحا إلى الشعر اطرادا بتعريف الشعر في أدنى معانيه، لكنَّ بعض كبار النقاد رووا مقالة تناقلوها دون تمحيص نظرٍ ولا إعمال فكر، فقالوا: “أعذبُ الشعرِ أكذبه”.
فهل هذا شيء خص الشعر دون الكلام؟ ومتى كان الكذب يكسو المعنى عذوبة؟ أليس الكذب مذمومًا كله حيثما كان إلا مكيدة حربٍ أو إصلاحَ ذاتِ بينٍ أو تحببًا بين زوجين؟
يخطئ كثير من الدارسين عندما يفصلون بين المبدع والنقد، ويجردون للنقد ناقدا وللإبداع أديبا، ذلك لأن طريق الإبداع لا تُعبد إلا لمن -قبل أن ينتج- جمع وحفظ وتذوق ووازن وميز الأصيل من الدخيل والعالي من السافل والذهب من الترب، وكلما زاد من ذلك كان أقدر على الإنتاج والإبداع والتصرف، والجمع والحفظ والتذوق والموازنة والتمحيص كل أولئك من معاني النقد وأوصافه، ونعم قد يكون نقدٌ من غير إبداع ولا يكون مبدعٌ من غير نقدٍ.
قال أبو المنهال بقيلة الأكبر (شاعر مخضرم):
وإنما الشعـر لـبُّ المـرء يَعرضه
على المجالسِ إنْ كيسا وإن حُمُقا
وإن أشعــرَ بيـــتٍ أنـــت قـــائـلُه
بيـــتٌ يقــال إذا أنشــدتَه: صَدَقا
فانظر إلى قوله: أشعرُ الشعرِ أصدقه، ثم تأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل” تجد الصدق مقياسًا من مقاييس جودة الشعر مجمعًا عليه في الشرع والشعر.
ولا يكون ما خالف الفطرة ومجَّته الأفئدة وأنكرته العقول عذبا إلا عند من فسدت فطرته فاختلت موازينه، مثله كمثل الذي ترك عذب المنكح والمأكل والمشرب إلى الخبيث العفن النتن من ذلك، ومن اختلت موازينه فلا يعتد برأيه ونقده.
قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء).
فذم الله شعراء وذكَرهم بأوصاف أنكرها عليهم، ثم استثنى اللذين آمنوا وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، وذرأ الخلفاء عن الشعراء حدودا استوجبوها بإقرارهم ما يوجب عليهم الحد في أشعارهم لأنهم: “يقولون ما لا يفعلون”، فلا يستنبط من هذا إقرار ذلك الفعل ولا ترخيصه ولا استحسانه.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال:
ألا هل أتى الحــسناءَ أن حــليلها
بميســان يُسقى في زجاج وحنتم
إذا شــئتُ غنتني دهــاقين قــرية
ورقـــاصة تجــذو على كل منسم
فإن كنتَ ندمـاني فبالأكبر اسقني
ولا تســـقني بالأصغـــر المــتثلم
لعـــل أمــــير المـــؤمنين يسـوءه
تنــادمنا بالجـــــوسق المتهـــدم !
فلما بلغ ذلك عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إي والله إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر: {بسم الله الرحمن الرحيم، حم, تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم, غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لآ إله إلا هو إليهِ المصير} أما بعد: فقد بلغني قولك:
لعـــل أمــــير المـــؤمنين يسـوءه
تنــادمنا بالجـــــوسق المتهـــدم !
وأيم الله إنه ليسوءني، وقد عزلتك.
فلما قدم على عمر بكَّته بهذا الشعر، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وما ذلك الشعر إلا شيء طفح على لساني!
فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلتَ ما قلتَ.
فلم يُذكر أنه حده على الشراب، وقد ضَمنَه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به.
فهذا رفعُ حدٍّ بشبهة لا ترخيصَ معه في الفعل، فإن قيل: إن في الاستثناء “إلا الذين آمنوا” ترخيصا للمؤمنين من الشعراء لمَا استنكر على غيرهم، فقد جاء في الحديث الشريف أن المؤمن قد يُواقع كل المنكراتِ إلا الكذبَ فلا يكون مِن متصفٍ بالإيمان.