أثار انتباهي وأنا أتصفح جريدة «هسبريس» الإلكترونية مساء الأربعاء 26 نونبر 2014 مقال عنوانه «هل العلمانية تحارب الأديان؟» فكان أن قرأته، وكان أن عزمت على تذكير صاحبه، وعلى تذكير قرائه بأن مناقشة ما لم يتطرق إليه، أو ما تم له إغفاله، هو مرتكز ما دارت حوله أفكاره.
أقصد مفهوم «العلمانية» التي بالغ في تمجيدها! وكأنها حولت العالم كله إلى جنة! فيها يتمتع كافة سكان الكرة الأرضية بالنعيم الدائم، بعيدا أن أوجهها القبيحة التي حولت العالم برمته إلى أوضاع، لم تعرف البشرية نظائر لها في عصر من العصور، وموصوفاتنا هنا لا تتجه صوب الماديات، إنما تتجه صوب المعنويات التي يختزلها مسمى القيم الكونية المزعومة! هذه التي لا تخفي همجية العلمانيين منذ ما يعرف بعصر الأنوار.
تكفي الإشارة هنا إلى التمييز العنصري الذي تجسد قبل كل شيء في استعباد السود واعتبارهم مجرد حيوانات للقيام بالأشغال الشاقة. ففي عام 1787 نقل 100 ألف عبد أسود إلى بلدان أوربا من بلدان أفريقيا المستعمرة! وتقول التقارير القديمة: إنه بين عام 1511 وعام 1789، نقل حوالي 50 مليون عبد إلى أوربا والأمريكتين! وكانوا يعاملون كما تعامل الدواب! والتمييز العنصري في قاموس العلمانية والعلمانيين لا يزال يفعل فعله في الدول العلمانية المتنطعة! وهذا يحتاج منا إلى التفاصيل التي تبرز همجية العلمانيين، دعاة العصرنة والحداثة والتقدمية والقيم العالمية الموحدة للعيان!! فإلقاء نظرة واحدة على ما يجري في عالم مطلع الألفية الثالثة يوضح ما نريد توضيحه في المقبل من المقالات.
وبعيدا عن مواجهة سخرية الكاتب ممن يدعي الإشفاق عليهم من خصوم العلمانية على حد زعمه، أسأله عما تعنيه العلمانية عنده؟ وعما تعنيه عند غيره من مؤيديه ومن مرافقيه على درب نفس امتداحها؟ وهذا المفهوم هو الذي كان عليه أن يوضحه، بدلا من تخطيه وكأنه أصبح من البديهيات أو من المسلمات، بينما هو في الواقع مفهوم غامض يجهل الكثيرون حقيقته! نقصد مدلوله الديني والسياسي والتاريخي!
تاريخيا، عرف الغرب العلمانية قبل سيدنا عيسى وبعده، وأثناء اعتناق مواطنيه للنصرانية بعد قرون من ظهورها، كما عرفتها أجزاء أخرى من العالم بكامله. فالإنسان بعيدا عن الرسالات السماوية، كان يحتكم لتنظيم مجتمعه إلى الأعراف والتقاليد وإلى القوانين التي تواطأ عليها، أو تواضع عليها أبناؤه، بغض النظر عمن وضعها من أولئك الأبناء اللامعين المبدعين. ولا نحتاج هنا إلى إطالة الكلام بخصوص مصر الفرعونية، وكيفية إدارة شؤونها كدولة؛ ونفس الشيء لا نحتاجه بخصوص الكلدانيين والأشوريين؛ فحضارة كل منهما تجاوزت الآفاق إلى ما وراء نهر دجلة والفرات، وبناء حضارتهما قائم على ضوابط قانونية وضعية. وما قيل عن هاتين الدولتين، يقال عن البابليين الذين اشتهر من ملوك دولتهم سرجون الأول الفاتح، وحمورابي الذي ترك كتابات وقانونا على جانب عظيم من الأهمية.
وبالانتقال إلى الغرب، نكون قد انتقلنا إلى اليونان شعب العلم والفن والحضارة والفكر؛ فقد كان أشهر المصلحين في أثينا هو صولون الذي خفف عن الشعب الضرائب، وسبيتراتس الذي شجع التجارة والملاحة، وكليبتانيس الذي حول حكومة أثينا إلى حكومة شعبية، وقسم السكان إلى عشائر، فأصبح لأثينا عشر قواد ومجلس شيوخ ومجلس قضاة ومجلس شعب.
دون أن ننسى الرومان كشعب الفتوح والتدبير، والآثار الخالدة التي لا تزال إيطاليا وغيرها من الدول الغربية تزخر بها، بل إنها لا تزال ماثلة أمامنا في بلادنا نفسها، إنها في مدينة وليلي القديمة التي تشهد بأن الرومان كانوا هناك منذ قرون، مع التأكيد على أن للرومان قوانين ظلت حية يجري العمل بها قبل الإسلام وبعده. فصح بأدلة قاطعة كيف أن العلمانية هي السائدة في العالم القديم، منظورا إليها عبر دول حضارتها المادية والمعنوية لا تزال ماثلة أمامنا، وسيادة العلمانية تعني سيادة قوانين لم يكن وراء تفعيلها دين سماوي يذكر. حتى اليهودية التي كان من المفروض أن ينفذ أتباعها الأحكام التي جاءت بها التوراة، لم تكن لها فرصة مواتية لبناء دولة تدرك أوج الدول التي أشرنا إلى بعضها، وإن لم نقف قليلا عند الفرس الذين قارعوا الرومان في حروب دامية، والذين خلفوا من الآثار العمرانية ما يثير إعجاب زوارها وإن تهدم بعضها أو آل إلى السقوط.
ومتى صح أن كل الدول التي ذكرناها موجزين، بنت حضارتها على أسس علمانية، منظورا إلى القوانين السائدة فيها، فإن أوربا بعد أن تسلحت بالمسيحية في صورتها الكهنوتية، تخلفت وتراجعت عن التقدم في مختلف الميادين؟ نتساءل: هل الغرب الأوربي كان يطبق المسيحية بعد أن انتقلت إليه لكون الإمبراطور قسطنطين (306-337م) قد اختارها لنفسه ولشعوب إمبراطوريته؟ خاصة وأن قسطنطين قام بخطوتين على جانب كبير من الأهمية: الأولى اعترافه رسميا بالديانة المسيحية؛ والثانية نقله عاصمة الإمبراطورية من روما القديمة إلى روما جديدة، شيدها على ضفاف البوسفور، وكان أن قام بإصلاحات من جملتها التفرقة بين السلطتين: الحربية والمدنية.
ثم كان أن انتصرت المسيحية -بعد صراع مرير- على الوثنية. «مما استلزم قيام تنظيم للعلاقة بين الكنيسة من جهة، والدولة والمجتمع من جهة أخرى، ذلك أن الإمبراطورية الرومانية كان لها دين رسمي وكهنة يتمتعون بمساندة الحكومة وتأييدها. ولكن رجال الدين في العصر الوثني لم يحاولوا إطلاقا التدخل في شؤون السلطة الزمنية، بعكس الكنيسة التي أخذت تكتسب شيئا فشيئا صفة سلطة جديدة منافسة للسلطة العلمانية، مما أوجد نفورا بين السلطتين: الزمنية والروحية. وهنا نلاحظ أن تدخل الكنيسة في شؤون السلطة الزمنية، أخذ يستفحل بازدياد ضعف الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها، حتى انتهى الأمر بأن حلت الكنيسة محل الإمبراطورية عندما غربت شمس هذه الأخيرة في غرب أوربا. ومما ساعد الكنيسة على تحقيق ذلك، أنها حذت حذو الإمبراطورية الرومانية في تنظيماتها، حتى أصبح الأساقفة يضطلعون بعبء التنظيم الإداري في أقاليم الإمبراطورية، فضلا عن نهوضهم بمهام التنظيم الكنسي» (تاريخ أوربا في العصور الوسطى، د. سعيد عبد الفتاح عاشور، ص:45).
فيكون هذا النص الذي بين أيدينا، والذي ليس لنا فيه أي مدخل، مناسبة لتأكيد كون الأوربيين لم يحتكموا قط إلى أية شريعة من الشرائع السماوية! فإن تحدث أنصار العلمانية ودعاتها في العالمين العربي والإسلامي عن إعجابهم بها إلى حد التقديس، فإنما هم يتحدثون عن الفصل بين مسمى السلطة الروحية والسلطة الزمنية! والحال أن الأولى بكل وضوح، وبعيدا عن أي التباس، لا تعني أحكام الشرع المنزلة! وإنما تعني «الكهنوت» الذي تقابله عندنا حتى الآن: ضلاليات الطرقيين والقبوريين. وبما أن هذه الضلالات لا تصلح أساسا لتنظيم دول متقدمة منفتحة على العالم، فإن «الكهنوت» المسيحي كما نعلم، مجرد عرقلة لكل فكر علمي تقدمي إبداعي، ولكل فكر حر لا ترضى عنه المؤسسة الباباوية بكل أتباعها من رهبان وقساوسة وأساقفة، وممن يليهم من خدمة الكنائس وسجناء الأديرة، الذين يمارسون فيها ما فضحه «جان جاك روسو» في «اعترافاته»، لأنه كاد يكون ضحية له!