فقه التغيير في ضوء مراعاة قاعدة المصالح وسنة التدرج عبد العزيز وصفي

من سنن الله الثابتة التي لا تتغير ولا شك فيها، أن كل الأمم تَمُرّ بفترات مختلفة، وتكون قوية في حين وضعيفة في حين آخر، جراء فتنة أو تقصير أو فساد كبير.. والغيورين على الأمة الإسلامية -علماء وعامة، حكاماً ومحكومين- يسعون دائماً إلى تغيير الواقع الانهزامي أو الضعيف بالأمة والوصول بها إلى مصافِّ العـزّة والـقوة والسيادة والريادة.. وهذا مطمح جليل يحتاج إلى فقه سديد ونظر رشيد، وإذا أردنا القيام به، فلا بد أن نبدأ بأهم الأمور؛ حتى يؤدي التغيير ثماره اليانعة، وليكون نقطة انطلاقة إلى عالم أوسع وأرحب… ولتحقيق ذلك وجب الالتزام ببعض الأمور حتى يكون التغيير مثمرا وفي أحسن صورة.
الأمر الأول: الاهتمام بالبناء العقدي وتصحيح التصورات الخاطئة والمفاهيم المغلوطة
مما يلزم بداية الاهتمام بتغيير العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة والتصورات الخاطئة والضالة؛ لتحُلَّ محلَّ كل ذلك العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة والمفاهيم السليمة المستقيمة، ثم نعتني بعد ذلك بجميع الجوانب التي تتعلق بحياة المسلم وعزّته وكرامته، ويجب أن تُراعى قاعدة المصالح الشرعية في ذلك؛ لأن تغيير المنكر أمر يحبُّه الله ورسوله( )، ولكن إذا كان تغييره سيؤدي إلى منكر أكبر منه وأعظم؛ فإنه لا يسُوغ إنكاره حينئذ( )، ويصبح ترك النهي عن المنكر في هذه الحالة واجباً؛ لأن التغيير لا يتحقق إلا بمنكر أعظم منه( )، وهذا كالإنكار على الحكّام والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتال الأمراء الذين يُؤخّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة»( )، وقال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ولا يَنـزِعن يداً من طاعته»( ).
وفي حديث أُمّ سَلَمة -رضي الله تعالى عنها- قالت: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنه يُستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلُّوا) ( )، والمعنى، أي: تعرفون بعض أفعالهم لموافقتها للعمل المشروع، وتنكرون بعضاً منها لمخالفتها…
والسؤال الذي يطرحُ نفسهُ بشدة هذه الأيّام هو: في أيّ شريعة، وفي أيّ دين أفتى من أفتى بجواز -بله وجوب- الخروج على حكّام الدول العربية والإسلامية اليوم؟!

ومن تأمل بتجرد وعمق نظر ما جرى عبر محطات تاريخ الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر… ( )، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله تعالى مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش ذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر( ). ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه..( ).
ومن خلال طرْقِنا لهذه القضية الدقيقة، لا بأس أن نسترشد بكلام العلماء؛ حتى نكون على بصيرة من أمرنا، قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه للحديث السابق: «وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها:
– إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدئ بالأهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن نقض الكعبة وردّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه؛ وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً، فتركها -صلى الله عليه وسلم-…
– ومنها: تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم، وأن لا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي -كما سبق-…»( ).
وفي نفس السياق استخلص الإمام ابن حجر فوائد جمّة من هذا الحديث، فقال -رحمه الله-: «… ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، والمراد بالاختيار المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يُترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة»( ).
وممن تناول هذه المسألة أيضا الإمام ابن القيّم وقد ذكر حادثة عن شيخه ابن تيمية -رحمه الله- تدل على فقهه بالتغيير والواقع، فقال: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التّــتَار( ) بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرتُ عليه وقلت له: إنما حرّم الله الخمر؛ لأنها تَصُدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم…»( )، فلله درُّه ما أفقهه.. وأعلمه بفقه واقعه!
إن تغيير حال هذه الأمة، وإرجاعها إلى حقيقة الإسلام، أمر لا يتم بالسهولة التي يتصورها كثير من الناس؛ إنما يحتاج -بحسب السُّنة الجارية- إلى وقت أطول بكثير، وجهد أكبر بكثير مما تم في هذه اللحظة في جميع الميادين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *