لا شك أن من أعظم الأخطار التي يواجهها المسلمون اليوم خطر الغزو الإعلامي؛ ذلك أن الإعلام يقتحم على الإنسان بيته من غير حسيب ولا رقيب؛ ويمرر ما شاء من أفكار ومبادئ وقيم؛ ويؤطر الناس ويربي الأجيال وفق طريقته ومنهجه ومرجعيته.
وما دام العصر الذي نعيشه هو عصر الإعلام بامتياز؛ فقد أخذت الفضائيات تتكاثر كالفطر؛ العربية منها والغربية؛ كل يعمل على شاكلته، فمنها من يروج صراحة للكفر والإلحاد والردة؛ ومنها من يروج للدَّجل والشعوذة والخرافة، ومنها من يروج للفسق والمجون والعري والتشجيع على الفاحشة.
وأمام هذا الوضع الخطير والشرر المستطير الذي بات يتهدد الأمة الإسلامية جمعاء؛ قام فئة من الغيورين على حمى الدين؛ فنفروا خفافا وثقالا للذب على عقيدة التوحيد؛ والمنهج السمح المعتدل؛ والسلوك القويم، وعملوا على إنشاء العديد من القنوات الإعلامية الهادفة لتشكيل حائط صد في وجه الغزو الإعلامي الشرس؛ ونسف الشبهات التي يلقيها الأفاكون؛ والصدع بدعوة الحق التي جاء بها خير المرسلين وخاتم النبيئين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن أولئك الغيورين على التوحيد ومنهج السلف الصالح قناة استطاعت أن توسع قاعدتها وتحظى بشعبية واسعة وعريضة في العالم العربي والإسلامي؛ بل وحتى في العالم الغربي؛ لما اتسمت به من وسطية وقوة علمية وحصافة عقلية؛ قناة وضعت لنفسها شعارا قرآنيا يدل على المنهج الذي ألزمت نفسها السير على طريقه؛ وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}؛ تلكم القناة التي لها من اسمها نصيب هي قناة الرحمة؛ التي أخذت على عاتقها تبليغ الإسلام السمح المعتدل بشموله وكماله؛ برحمته وعدله، بعيدا عن الغلو والتطرف؛ والميوعة والذوبان؛ غايتها الصدع بالحق وإبلاغ الحق بحق.
وقد مضت سنة الله تعالى في خلقه أن كل داع إلى الحق لا بد له أن يبتلى ويمتحن؛ ولا يُمكَّن للصادق حتى يبتلى؛ فالقناة بالنظر إلى ما أصبحت تحظى به من شعبية كان لا بد وأن تترصدها أعين الأعداء والخصوم الألداء؛ وهو ما وقع بالفعل؛ فقد تعرضت قناة الرحمة في الآونة الأخيرة لحرب غربية صهيونية ضروس؛ افتتحها عَينُ العالم الغربي على العالم العَربي مركز أبحاث الشرق الأوسط للإعلام “ميمري”.
فقد قام هذا المركز الصهيوني الأمريكي بترجمة محاضرة للشيخ المُربِّي محمد حسين يعقوب من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية؛ كان الشيخ قد تعرض فيها للخلاف العقدي مع اليهود؛ ونقل بأمانة علمية ما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة بخصوص هذا الموضوع؛ فما كان من المركز إلا أن رفع تقريرا وقدمه إلى السلطات الفرنسية التي طلبت بدورها من المركز مجددا متابعة مضمون ما تبثه القناة منذ إنشائها سنة 2008.
وقد كان المجلس الأعلى للمواد السمعية البصرية بفرنسا “CSA” قد أعلن في شهر أبريل الماضي منع استقبال قناة الرحمة الفضائية على الأقمار الصناعية داخل فرنسا؛ بحجة أن القناة تقوم ببث مواد معادية للسامية على برامجها. وزعم المجلس الفرنسي في قراره أن ما تبثه القناة المصرية يتعارض مع القانون الفرنسي الذي يحظر التحريض على الكراهية أو العنف على أساس الدين أو القومية.
وبالتوازي فقد رحبت منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بالقرار؛ وحرض “أبراهام فوكسمان”؛ مدير رابطة مكافحة التشهير اليهودية الأمريكية التي تصدر تقارير دورية لرصد انتقاد الكيان الصهيوني في وسائل الإعلام المصرية؛ دول الاتحاد الأوروبي على الاقتداء بالمبادرة الفرنسية، وتوسيع الحظر في جميع الدول الأعضاء.
ولا ندري لماذا عواطف الغربيين مرهفة وحساسة جدا إذا ما مس جانب الصهاينة أو تعرض أحد لهم بالنقد أو التشكيك فيما يزعمونه ويدعونه؛ وجامدة ساكنة إذا ما أهين جانب المسلمين وانتهكت مقدساتهم وأوطانهم وشعوبهم؟
لماذا لم يتحرك الضمير الحي للرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” وهو الذي كلف المجلس الأعلى للمواد السمعية البصرية “CSA” بتحديد المواد الإعلامية التي تعادي السامية في جميع وسائل الإعلام التي تبث أو تقرأ في فرنسا، لماذا لم يتحرك حين أساءت القناة الصهيونية العاشرة طيلة أسبوع كامل من خلال برنامجها الساخر “هيساردوت” (أي البقاء على قيد الحياة) الذي يقدمه المذيع اليهودي المتطرف “ليئور شلايين” والمتطرف “نتان بشيفكن” إلى نبي الله عيسى وأمه مريم العذراء عليهما السلام؟
لماذا لم يتحرك حين أشار “نتان بشيفكن” ضيف برنامج “هيساردوت” إلى حذائه قائلا: “هذا محمد..” وكرر جملته مؤكدا ذلك بقوله: “نعم هذا محمد..” وسط قهقهة جميع من حوله؟
ألا يتعارض هذا الاستهزاء مع القانون الفرنسي الذي يحظر التحريض على الكراهية أو العنف على أساس الدين أو القومية؟
ألا يعتبر هذا التطاول السافر على أنبياء الله تعالى دليلا واضحا على عمق العداوة التي يكنها اليهود المتطرفون للإسلام والمسلمين؟
ألا يمثل ذلك انتهاكاً صارخاً لكافة الشرائع الإلهية والقوانين والمواثيق الدولية؟
إننا لا نبالغ إذا قلنا أنه ما من شيء في الإسلام إلا وتعرض للطعن والتجريح، ابتداء من أركان الإسلام الخمسة ومرورا بالقرآن الكريم وشخص النبي عليه الصلاة والسلام إلى الهجوم الحاد على الشريعة، وتسفيه تعاليمها ومقاصدها؛ فالقس الصهيوني “بات روبرتسون” صاحب برنامج نادي الـ 700 الذي تصل نسبة مشاهديه إلى أكثر من 16 مليون عائلة أمريكية؛ وصف في برنامج (هانتي وكولمز hannity & colmes) نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (كان -أي محمد- مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون)؛ ووصف جيري فالويل نبينا محمد بقوله: (أنا أعتقد أن محمدا كان إرهابيا، في اعتقادي.. المسيح وضع مثالا للحب كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمدا وضع مثالا عكسيا، وإنه كان لصا وقاطع طريق). الأمر نفسه ينطبق على تصريحات حاخامات اليهود من أمثال “عوفاديا يوسف” الذي يصف المسلمين بالصراصير والحشرات التي ينبغي سحقها بالأقدام.
ولكن إذا علمنا أن اليهود يسيطرون على جل وسائل الإعلام في العالم الغربي وأن الجرائد والمجلات التي تؤطر الرأي العام الأمريكي كـ”الواشنطن بوسط” و”نيويورك تايمز” و”وول ستريت” و”التايم” و”النيوزويك” يمتلكها يهود؛ والقنوات التي يستقي منها الأمريكيون أخبارهم كالـ NBC وCBC وABC يتحكم فيها يهود؛ وأن هذا الأمر ينطبق كذلك على كثير من دول القارة العجوز؛ إذا علمنا كل ذلك سهل علينا أن نفهم الإرهاب الذي يمارسه الصهاينة على كل من تجرأ على فضح جرائمهم ومخططاتهم؛ ووسمه بالتهمة الجاهزة تهمة: معاداة السامية.
فكل معارض للاحتلال الصهيوني لفلسطين فهو معاد للسامية؛ وكل من لم يعتبر القدس عاصمة “إسرائيل” الأبدية فهو معاد للسامية؛ وكل من يقف ضد بناء المستوطنات فهو معاد للسامية؛ وكل من يدعو إلى محاكمة الصهاينة على الجرائم التي ارتكبوها على مر التاريخ وإبادتهم شعب غزة فهو معاد للسامية.
وباختصار فكل من”يعبر الخط من كلمة عادِل إلى كلمة مُخطئ ضد اليهود، يكون قد عبَر الخط بين أن يكون هذا الموقف مقبولاً أو معادياً للسامية!؟” كما قال الكاتب البريطاني آلان دير شاويتز في كتابه “الحالة الإسرائيلية”.
فسلاح التشهير بمعاداة السامية هو السلاح الذي لا يتوانى الصهاينة في إشهاره في وجه كل من صدع بما يخالف هرطقاتهم؛ ويكشف باطلهم وإفكهم؛ بغض النظر عن دينه وجنسيته، فقد سجن الصحفي الفرنسي “ببلو بواكس” وأغلقت صحيفة (فرنسا المقيدة) سنة 1939م؛ حين تجرأت الصحيفة على نشر مقال هاجمت فيه يهود فرنسا، وتعرض المؤرخ البريطاني الشهير “أرنولد توينبي” لتجريح لاذع داخل بلده وخارجها حين تجرأ على وصف الصهاينة بأنهم أحط من النازيين، وتابعت العصبة العالمية لمناهضة السامية (ليكرا) المفكر الفرنسي المسلم “روجي جارودي” وزميليه “لولون” و”ماتيو” بسبب كتاباتهم الجريئة ضد الصهيونية؛ وحوكموا بسبب ذلك سنة 1983م؛ وفصل المؤرخ الفرنسي الدكتور (روبير فوريسون) أستاذ التاريخ من جامعة ليون مِن عمله بسبب اتهامه بالنارية؛ وإنكاره غرف الغاز النازية.. ومسلسل الإرهاب وتكميم الأفواه الصهيوني في هذا المجال طويل الباع؛ ذائع الصيت.
وقناة الرحمة لم تكن استثناء من ذلك كله؛ فقد نالها شرر من نار الإرهاب الصهيوني؛ فرغم أن القناة مصرية والقمر الصناعي الذي تبث منه إرسالها مصري أيضا؛ والدستور المصري يشير في المادة 48 على حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام وكفالتها، والعقد المبرم بين القناة وإدارة القمر الصناعي النايل سات ينص على أنه في حالة وجود أي أزمة يتم حلها بشكل ودي أو يتم اللجوء للمحاكم المصرية؛ رغم ذلك كله فقد استطاع اللوبي الصهيوني أن يضطهد القناة ويحرم الناس من حقهم في الاستفادة من هذا الصرح الإعلامي المتميز والوسطي.
لقد أثبتت الواقعة التي تعرضت لها قناة الرحمة أن أعداء الإسلام يترصدون حركات العاملين في حقل الدعوة إلى الله تعالى بدقة؛ ويراقبون عن كثب الطفرة الإعلامية التي يشهدها العالم الإسلامي بالذات؛ ويتوجسون منها خيفة؛ لذا فالإرهاب الذي تعرضت له قناة الرحمة لا يستبعد أبدا أن تتعرض له قنوات إعلامية أخرى؛ وهذا حافز قوي لكي تتضافر جهود الإعلاميين وتتكامل؛ ويشد كل واحد على يد أخيه إذا ما تعرض لاستفزاز أو إرهاب من أي جهة كانت؛ عملا بوصية الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.