الصيف قد ولَّـى.. فماذا بعد؟ محمد أبو الفتح

ها هو ذا فصل الصيف قد ولى بما له وما عليه، وصار كالرجل المُدْبر بعد أن فرح الناس بإقباله، فيا فوز من سارع فيه إلى الطاعات وملأه بما يرضي رب الأرضين والسماوات، بل أقول يا فوز من حفظ فيه حدود الله ولم يتعدها وخرج منه كفافا لا له ولا عليه، ويا ويل من سَوَّدَ فيه صحيفته بالفواحش ما ظهر منها وما بطن، وخرج منه مذموما مدحورا، بلعنة من الله وغضب من الرحمن، مثل خروج إبليس من الجنان.

فأي خير في متاع قليل يعقبه غضب الرحمن وسخطه؟! وأي خير في لذة ساعة يعقبها ندم طويل وحسرة؟!
فيا ليت هؤلاء أخذوا بنصيحة ذلك المؤمن التي خلدها القرآن حين قال: “يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ” سورة غافر.
فالأمر كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: “مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى” سورة النساء، فمتاع الدنيا قليل مهما كثر وهو إلى زوال حتما، وقد فُضل عليه متاع الآخرة بأمرين ذكرهما الله تعالى في قوله: “بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى”، فقد وصف الله الآخرة بوصفين كل واحد منهما يكفي اللبيب ليصرف نظره عن الدنيا إلى الآخرة، والعاقل من الناس لا يُؤثر الفاني على الباقي، ولا يفضل القليل على الكثير، وفي المقابل فإن الله ميَّز عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا بأمرين ذكرهما في قوله عز وجل: “وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى” سورة طه، فمن هذا الأحمق الأخرق الذي يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيستعجل المتاع القليل الزائل في الدنيا، ويدخر لنفسه العذاب الأشد والأبقى في الآخرة؟!
فيبيع بيعتين في بيعة ويرجع بالأوكس منهما في الحالين، ففي سوق المتاع يختار لنفسه أقل المتاعين وهو متاع الدنيا، وفي سوق العناء يختار لنفسه أشد العذابين وهو عذاب الآخرة، فيخسر الصفقتين، ويضيع الدارين.
ولا ننسى أن مدة حياة الإنسان في الدنيا ليست بشيء في مقياس الزمان إذا قورنت بالأزمنة السحيقة التي مضت، ومن باب أولى إذا قورنت بالآخرة الباقية ولذلك قال تعالى: “وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ” يونس، وقال سبحانه: “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ” سورة الأحقاف، وقال عن الساعة: “كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا” سورة النازعات.
ويمكن للعاقل أن يعتبر بما مضى من عمره فسيجد مُضِيَّهُ كَلَمْح البصر بل هو أقرب، فيا حسرتنا على ساعات ذهبت إلى غير رجعة لم نكتسب فيها خيرا، ولم نزدد فيها من الله قربا، فساعات الطاعات ساعات خالدة يُسَرّ بها المؤمن إذا رآها في صحيفة أعماله، وإذا جوزي عليها في جنات الخلد، وساعات اللهو والمعاصي ساعات ضائعة ومدعاة للألم والحسرة، فلنتدارك الأمر قبل أن لا ينفعنا الندم، “أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ”، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم تِرَة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ” رواه الترمذي (ترة: أي حسرة).
ولنعتبر بمن مضى قبلنا، فهؤلاء القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أمضوا ما يقارب أربعة عشر قرنا في قبورهم والساعة لم تقم بعد، أي ما يجاوز أربعة عشر مرة ما أمضوا من أعمارهم في الدنيا، فيا بشرى من كان منهم في روضة من رياض الجنة يتنعم، ويا خسارة من كان منهم في حفرة من حفر النار يتقلب.
ما قيمة ما عاشوا في الدنيا إلى ما أمضوا في القبور؟
وهل ساعة عذاب توازى بساعة نعيم؟
أم إن العذاب يضاعف الزمن في شعور الإنسان، والنعيم يختصره؟
الواقع يؤكد هذا الأخير كما قال الشاعر:
تُطْوَى وَتُنْشَرُ دُونَهَا الأَعْمَارُ إِنَّ اللَّيَالِيَ لِلْأَنَامِ مَنَاهِــلُ
وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُورِ قِصَارُ فَقِصَارُهُنَّ مَعَ الهُمُومِ طَوِيلَةٌ
ويا ليت شعري كيف ينظر أهل القبور إلى دنيانا هذه التي نتنافس عليها؟ كأني بأحدهم يصيح بأعلى صوته من بين القبور ناصحا أهل الدنيا: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ” سورة فاطر، يا أهل الدنيا قد عرفنا ما لم تعرفوا ورأينا ما لم تروا، وليس رَاءٍ كمن سمع، فأعِدُّوا لمثل ما نحن فيه قبل أن تصيروا إلى ما صرنا إليه، فإنا والله قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، وستجدون ما وعدكم ربكم حقا، فَالبِدَارَ البِدَارَ قبل أن يحال بينكم وبين العمل.
ويا ليتنا نعتبر بما جرى في صيفنا هذا من حرائق وفياضانات، وإعصارات، وزلازل… فإن ذلك والله بسبب ذنوب العباد، كما قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ “سورة الروم، وقال عز وجل: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ” سورة الشورى.
ولكن أكثر الناس لا يعتبرون، وإذا نزل بهم العقاب الإلهي قالوا كما أخبر تعالى عن القرى: “وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ” سورة الأعراف، أي: أن هذا الذي أصابنا ليس بسبب تكذيبنا للرسل وإنما هو من دوائر الدهر وتقلباته، يومٌ لنا ويومٌ علينا، فالأمر طبيعي ولم يخرج عن المعتاد، وبلغة أهل العصر هذه كوارث طبيعية فالصواعق ما هي إلا شحن كهربائية، والزلازل ناتجة عن انزلاق القشرة الأرضية، والفيضانات والجفاف ناتجان عن الاحتباس الحراري، وهكذا تفسر الظواهر تفسيرا سطحيا على خلافٍ بينهم في تفسير بعضها، دون بحث عن أسباب هذه الأسباب، فَيُصْرف الناس عن الاعتبار، وتمُرُّ بهم الآيات العظام من غير أن تحرك فيهم ساكنا.
فإذا جاء الجفاف قالوا: أثبت التاريخ أن مناخ بلدنا متقلب، تمرُّ به فترات جفاف وفترات رخاء.
وإذا جاءت الزلازل قالوا هذه بؤر زلازل ثبت عبر التاريخ أنها تتحرك من حين لآخر.
وهكذا كلما جاءهم عقاب قالوا كما قال أسلافهم من قبل: “قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء”.
فيغترون بما عندهم من العلم ويرون أنهم على شيء، وأن ما جاءت به الرسل تخلف وجهل، كما قال تعالى عن المكذبين الأولين: “فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون” سورة غافر، وأي شيء ينفعهم علمهم حين ينزل بهم عذاب الله، فيساقون إلى الجحيم بعد الموت، ويبقى لمن بعدهم تفسير الظاهرة التي نزلت بهم.
وهكذا يُصرف كل قوم عن الآيات فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *