بين الحجاج القرآني والحجاج اليوناني ذ.يونس الناصري

يستحسن أن نشير في هذا السياق إلى أن الحجاج القرآني أقوى وأوفق للتصديق العقلي وأكثر تأثيرا في القلوب من الحجاج البشري وإن بلغ الغاية في قوته الحجاجية، “فدلالة القرآن سمعية عقلية قطعية يقينية، لا تعترضها الشبهات ولا تتداولها الاحتمالات ولا ينصرف القلب عنها بعد فهمها أبدا” .
وذهب العلماء إلى أبعد من ذلك حين اعتبروا القرآن “مملوءاً بالاحتجاج، وفيه جميع أنواع الأدلة والأقيسة الصحيحة” .
ودعا الله رسوله إلى استعمال الحجاج في مخاطبة المشركين الذين عرفوا بقوة العارضة اللغوية ورجاحة العقول، فقال عز من قائل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل/125، وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} العنكبوت/46.
ولعل سائلا يقول:
لماذا اشتمل القرآن على كافة أنواع الحجاج؟
أليس يكفي حجةً أنه كلام الله؟
للجواب على ذلك يقول الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان: “لما كانت طبيعة الإنسان الجدل، فلا يكاد يسمع قولا إلا وينبعث منه داعي الرد؛ كما قال تعالى: {وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} الكهف/54، ولما قضى الله عز وجل الخلاف وأراده إرادة كونية: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} هود/118، وكان من لازم الخلاف الجدل والمناظرة والمحاورة…” ، لما كان الأمر كذلك حاج الله تعالى عباده لما علمه منهم مما فطرهم عليه من حب الحوار والنقاش وكثرة التفتيش بالعقل، وفي هذا إشادة بالعقل شريطة أن يلتزم بالصدق والرغبة المؤكدة في الوصول إلى الحق، “فإن الله سبحانه علم ما عليه بنوا آدم من كثرة الاختلاف والافتراق وتباين العقول والأخلاق، حيث خُلقوا من طبائع ذات تنافر، وابتُلُوا بتشعب الأفكار والخواطر” .
لذلك قال الصنعاني رحمه الله: “ولو تأمل الناظرون والمناظرون تأديبات القرآن وكيفية إقامة البرهان الذي هو في غاية البيان، لاستغنوا به عن تأليف اليونان، وتعلم آداب البحث لفلان وفلان” .
بيد أن الحجاج القرآني مبني على عادة العرب في لغتها، فهو حجاج منطقي لغوي في آن واحد، لا تُهمَل فيه اللغة على حساب المنطق، ولا المنطق على حساب اللغة، بل يزداد الحجاج القرآني قوة وبيانا في اجتماع واكتمال الأمرين، ودليل هذا الكلام ما نقله الدكتور حمد العثمان عن الراغب الأصفهاني في مقدمة تفسيره أنه قال: “ما من برهان وتقسيم وتحديد يُنبئ عن كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا والقرآن قد نطق به، لكن أورده الله تعالى على عادة العرب ” .
وهذا أكبر دليل على ارتباط الحجاج القرآني باللغة التي نزل بها وما تحويه من أساليب مرتبطة بثقافة مختلفة تماما عن لغة وثقافة اليونانيين، لذلك من العبث أن نسقط المنطق اليوناني بحمولاته العقَدية والثقافية والاجتماعية على الحجاج القرآني.
قد ناقش العلماء السابقون المنطق اليوناني ومقلديه وحاجوهم بمنطق قرآني خالص، فأظهروا الفرق بينهما في مصنفات عديدة. وهذا لا يعني أن المنطق اليوناني شر كله، بل هو كسائر إنتاجات العقل البشري يحمل حقا وباطلا، والباحثون المسلمون استخلصوا منه ما يفيد في دراسة الحجاج والمنطق القرآني، لتبيان إنسانية هذا الحجاج المنطقي واتفاق جميع العقلاء عليه، وهذا في حد ذاته من أعظم حجج القرآن الموجهة إلى المخاطَبين.
“فللقرآن منهجه الخاص في محاجة الناس وإقامة الحجة عليهم بالأدلة العقلية اليقينية التي لا تقبل الإنكار، فضلا عن الشك والظن، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الزمر:27-28” .
فيظهر من إشارة الله تعالى لعربية القرآن الكريم اختلافُه عن أي منطق آخر غير مبني على لسان العرب، ولا أدل على ذلك من اعتقاد فصحاء العرب وبلغائهم قوة تأثير القرآن الكريم في السامعين بسبب جزالته وفصاحته ودقة تعابيره، مما جعلهم يقولون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فصلت:25.
إن كثيرا من الباحثين قديما وحديثا ظنوا أن دارس الجوانب العقلية المنطقية الحجاجية واجبٌ عليه معرفةُ منطق أرسطو أولا، ثم بناءُ منطقه عليه واحتكامه إليه في مسائله وتفريعاته، وإذا حكمنا المنطق السليم في هذه المسألة تبين لنا خطؤها، إذ المنطق الأرسطي هو خلاصة مسيرة إنسانية طويلة قبله، وأرسطو كان له فضل التقعيد والضبط والتقسيم بناء على ما حباه الله به من ذكاء وفطنة وحسن نظر ، إلا أن العلماء الذين درسوا منطقه بعمق غير متحيزين له ولا ناكبين عنه وقارنوه بالمنطق القرآني، تبين لهم بلا شك “أن المنطق لو لم يُترجَم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون، لكان دينهم وعقيدتهم في غنىً عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح” .
ولا شك أن الخلفية المرجعية التي كان يمتح منها أرسطو قد أثرت على منطقه، لذلك “لما تُرجِم وتُعُلِم، صارت أقيسته هي الطرق الوحيدة لنفي بعض صفات الله تعالى الثابتة في الوحيين” ؛ وذلك ناتج عن اختلاف البيئة الاجتماعية اليونانية بتصوراتها الثقافية عن البيئة الإسلامية بمنهجها القرآني الفريد المبني على التوحيد.
أما القياس الأرسطي، فهو في جملته قياس مقبول، لأنه مبني على أسس منطقية تشترك فيها الإنسانية جميعها، فآدم عليه السلام كان يعرف المنطق وكل الأنبياء بعده وكل العقلاء إلى زمان أرسطو، يقول ابن تيمية: “والقياس ينعقد في نفسه بدون تعلم هذه الصناعة ، كما ينطق العربيُ بالعربية بدون تعلم النحو، وكما يقرض الشاعر الشعرَ بدون معرفة العروض، لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجب استغناء الآخرين، فاستغناء كثير من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازع فيه أحد منهم” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *