الأمن نعمة وضرورة والمعاصي من أسباب فقدانه.. فكيف نحافظ عليه؟ محمد أبو الفتح

..على كل حكومة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتحرص على الأمن والاستقرار أن تسعى إلى نشر التوحيد ومحاربة الشرك، فإنه يحصل لها من الأمن بقدر ما حققت من التوحيد.
..إقامة شرع الله سبب لسعة الرزق ورغد العيش واضمحلال الفقر الذي يجعله بعضهم المتهم الأول في كل قضية وجريمة.

الأمن نعمة عظيمة

الأمن نِعمةٌ من نِعَم الله تعالى التي لا تُحْصى، ومِنَّةٌ مِنْ مِنَنِهِ التي لا تُستقصى، وهو ضرورة من ضروريات الحياة السعيدة التي ينشدها كل عاقل، ويصبو إليها كل لبيب، كما أنه مطلب تسعى إلى تحقيقه كل الأمم والدول على اختلاف أزمنتها وأمكنتها وأجناسها وشرائعها، ومما يدل على قَدْرِ هذه النعمة:
أن الله تعالى امتن بها على المشركين يَسْتَحِثُّهم بذلك على توحيده والإيمان به، فقال تعالى: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ” العنكبوت، وفي آيات أخرى جمع بين هذه النعمة ونعمة الطعام الذي هو قوام الحياة ليَدُلَّهم بذلك على خطورة نعمة الأمن، وأن نعمة الطعام ليست أولى بالشكر منها، فقال تعالى: “أوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” القصص، فجمع بين نعمتي الأمن والرزق الكريم. وقال سبحانه: “لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” فَذَكَّرَهم بالنِّعمتين معاً لعلهم يَرْعَوُون.
كما امتن الله بنعمة الأمن على المؤمنين بعد أن نصرهم على عدوهم ومكَّن لهم في الأرض فقال لهم مُذكرا ومُتَحَبِّبا:
“وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ “الأنفال، فجمع لهم بين نعمتي الأمن والرزق الطيب لافتقار كل منهما إلى الأخرى، فلا تتم للإنسان نعمة الأمن إذا كان شبح الجوع يطارده، كما لا تتم له نعمة التلذذ بالطعام والشراب إذا كان وحش الخوف يرصده، قد أَحَدَّ إليه بصرَه، وأنشب أظفاره، وكشَّر عن أنيابه، فلا يأكل الطعام إن أكله إلا غُصَصًا، ولا يشرب الشراب إن شربه إلا جُرَعًا، “يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ”.
ومن جمع الله له بين النعمتين وزاده نعمة العافية فكأنما سيقت له الدنيا بأسرها، عن عبد الله بن محصن الخطمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها” (حسنه الترمذي والألباني).
موقف الشرع من الإخلال بالأمن
ولما كان الأمن بهذه الخطورة فإن الله تعالى رتب على الإخلال به أشد العقوبات فقال سبحانه في الذين يقطعون الطريق ويُخِيفون السبيل: “إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” المائدة، فلا يُعرف في الإسلام حَدٌّ قال الله فيه مثل ما قال في حد الحرابة.
وذلك لأن الإخلال بالأمن يحصل به الإخلال بالضروريات الخمس التي جاء الإسلام برعايتها والحفاظ عليها؛ فبضياعه وحلول الخوف مكانه يفتن الناس في دينهم، وتسفك دماؤهم، وتطيش عقولهم، وتنتهك أعراضهم وأموالهم.
فالأمن إذًا مطلب شرعي قبل أن يكون مطلبا للحكومات والدول التي ما فتئت تبذل كل ما في وسعها في سبيل الحفاظ عليه؛ إلا أنه يلاحظ على أغلبها إغفالُ الأسباب الشرعية التي دلَّ عليها القرآن والتي أثبت تاريخ صدر الإسلام نجاعتها، والاكتفاء بمعالجة أسباب سطحية أثبت واقعُ أقوى دول العالم وأغناها عدم كفايتها، فهي تعرِف أكبر معدلات الجريمة، ولا يستطيع أفرادها أن يتجولوا فيها بدون سلاح.
من الأسباب الشرعية لتحصيل الأمن والحفاظ عليه
فإن قيل: ما هي الأسباب الشرعية الكفيلة بتحصيل الأمن والمحافظة عليه؟
فالجواب: إنها أسباب كثيرة يرجع أغلبها إلى ثلاثة أسباب:
أولا: تحقيق التوحيد والإيمان والعمل الصالح: قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ” الأنعام، فبقدر إيمان العبد وتوحيده يحصل له الأمن في الدنيا والآخرة، وهذا ينطبق على الأفراد والجماعات، كما قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً”، فالإيمان والتوحيد سبب للأمن والتمكين، كما أن الكفر والشرك سبب للخوف والخذلان، قال تعالى: “سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً”، وقد أنجز الله وعده للمسلمين حين صَدَقُوه، وتحقق ما أخبر به النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم حين قال: “والله ليُتِمَّن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه” (أخرجه البخاري).
فعلى كل حكومة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتحرص على الأمن والاستقرار أن تسعى إلى نشر التوحيد ومحاربة الشرك، فإنه يحصل لها من الأمن بقدر ما حققت من التوحيد.
ثانيا: شكر نعم الله وعدم الكفر بها: وذلك بالإقرار بها بالقلب، وشكر الله عليها باللسان، وبطاعة الله بالجوارح والأركان، فما شَكَرَ نِعْمَةَ رَبِّه مَنْ بارزه بالعصيان، قال تعالى: “وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ” النحل، فشُكر نعمة الله مَجْلَبَةٌ للرزق والأمن، والكفر بها سبب للخوف وضيق العيش.
فليخش الذين بَدَّلوا نعمة الله كفرا أن يُبَدِّل الله أحوالهم، فيذيقهم مرارة الخوف بعد أن ذاقوا لذة الأمن، ويلبسهم لباس الجوع بعدما تسربلوا بسربال النعيم، فليتق الله الذين ينشرون في البلاد الفساد مِنْ تَبَرُّج يستحيي منه تبرج الجاهلية الغابرة، وخمور تسكر منها خمور العصور السابقة، وألوان من الفساد لا يعلمها إلا الله اجتمعت فينا، وتفرقت في الأمم قبلنا وقد علمنا أن الله قد عذب كل أمة بآحادها: من شرك ولواط وتطفيف للكيل ومخالفة الرسول..
وإنه ليخيل للمتأمل أن بعض المسلمين يعتقدون أن فصل الصيف فصل يُرفع فيه التكليف، وكأن مناديا ينادي من السماء: إنه قد أذن لكم في كل حرام خاصة في الفروج، وسقط عنكم كل فرض حتى الصلاة، فترى الناس يتناسون الواجبات، ويتسابقون إلى المحرمات فمن مستقل ومن مستكثر، وكأن ما يجري للمسلمين في بلاد الإسلام الأخرى لا يعنيهم بشيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن العبد والله لا يدري أيعجب من جرأة المسلمين على ربهم، أم من رحمته ولطفه بهم، وأخشى ما يخشاه المرء أن يَصْدُق علينا قوله تعالى: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً “الإسراء، فاللهم سَلِّم سَلِّم.
ثالثا: تطبيق شرع الله أفرادا وجماعات: فإن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بما يُصلحهم، إذ كل صانع أدرى بصنعته، كما قال تعالى: “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”الملك، وشرع لهم من الحدود والأحكام والتشريعات ما يصلح به معاشهم ومعادهم، فإن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وأداء حق الله إلى المحتاجين، والتضامن مع المُعْوِزِين، يَكُف كثيرا من الشرفاء عن احتراف الجريمة، كما يَسُل من القلب الحقد والضغينة، ويبث مكانها الحب والسكينة. كما أن إقامة شرع الله سبب لسعة الرزق ورغد العيش واضمحلال الفقر الذي يجعله بعضهم المتهم الأول في كل قضية وجريمة، قال تعالى:”وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم”المائدة، وقال: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ” الأعراف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *