عندما يحسبون علينا كل صيحة عبد المغيث موحد

من مجانبة الصواب في باب النيات؛ وخندقة الأمور في سياق مقاصدها وصوب المراد منها؛ أن يطول بنا المقام -ونحن نكتب أو نرد تسفيها لبعض النفوس المترفة- ألا نعرج على ذكر أننا لا نتصور الاستثناء -إن شاء الله- في هذا الخصوص لكل شريف غيور منتسب إلى الحق والصدق؛ كانت تلك مهمته مهمة الرد السالف الإشارة إليه.
حينما نحمل القلم ونعض عليه بثلاثية الوسطى والسبابة والإبهام أن مرادنا من ذلك ليس الانتصار للإسلام وإعلاء شأن المنتسبين إليه من جهة؛ وهزم من يتربص به بعداوته خارج دائرة فضله وعدله وكماله، كما أننا لا نرد ومرادنا تخفيف ضربات كان لها وقع ومغنم من لدن الجهة المناوئة، فعزة الإسلام وانتصار الإسلام وفضله وعدله وكماله ولازم ذلك وما تعداه إلى أهله من المسلمين هي أمور مرجعها في الأول والأخير إلى ما أودعه الله عز وجل في جوهر هذا الدين من تمام نعمة، وكمال منهج من جهة، وما هو مركوز في فطر معتنقيه، اعتناق صدق وحق من جهة ثانية، وما وعده الله لأصفيائه وأوليائه من تمكين وظهور وعز وغلبة؛ متى ما لزموا عتبة الانتساب ومكرمة الاتباع على وفق الأمر الذي لا يقبل تجزئ الوحي ولا يرضى أنصاف الحلول، ولا يبغي الإيمان ببعض الكتاب وتورية البعض الآخر، أو جعله ظهريا، أو اتخاذه معرة مخافة لوم اللائمين وتسلط المتسلطين من جهة ثالثة.
ولكننا ومخافة أن يتكلس حبر قلم الرد وتقربا إليه سبحانه تقربا مجردا عن الجزاء والشكور، ومعذرة إليه، واهتبالا على الوسع والقدرة لعارية العمر، وتأدية لواجب شكر نعمة الانتساب واستدراكا على إطباق الأخشبين إلى رحابة رجاء عودة أهل الغي والبغي عن ضلالتهم وبدعة مروقهم من الدين وانسلاخ فطرهم عن سوية الإلهام النفسي.
ولعل من حسنات هذا التعريج -تصريحا لا تلميحا- هو قطع الطريق على جم غفير من أهل التعصب والتطرف العلماني والحداثي من معتنقي الظلامية الجديدة والجاهلية المتجددة، ذلك أن الكثير من هؤلاء وحينما ينكب أحدهم على حبر ما يخفيه صدره من حقد دفين على هذا الدين العظيم يستشرف بجوع ونهم وكبير أمل في أن يكون في مقابل خبله وخرص ظنه وزبالة فكره ترادف ردود من خصومه التقليديين من سخائم (الإسلاموية الظلامية المتطرفة) و(السلفية الوهابية المتكلفة)!
وتلك ولا شك عادة مرضى النفوس وإلف مدخوني النيات؛ ومدخولي المقاصد؛ فهم وكما بلونا أخبارهم يسرقون شواهد الصحة والعافية ويحوزون سريالية الصواب وذكرانية النضال من مواقف الأشراف وتحريف تاريخ الأسلاف.
إنك وعلى مثل هكذا تصور ومقاس حينما ترد تقدم خدمة لهذا النوع من الوصوليين ما توازيها خدمة، ويحضرني في هذا المنعطف فعل ذلك الذي تبول في بئر زمزم ولما أخذ بالنواصي والأقدام وسألوه عن سبب تهوره أجابهم بأنه كان يروم الشهرة والتمكين لاسمه بين سطور التاريخ وثنايا المحفوظ من وقائعه، فهل نال غير أنه ذكر ولا يزال يذكر بذلك النكرة الذي تبول في بئر زمزم.
وعليه فإننا لا نملك إلا أن نكرر -ولعل ما تكرر لابد أن يتقرر- أنه لا يمكن بل لا يجب أن نخندق هذه القربة من الردود في سياق إسعاف الدين وضخ مادة الحياة في أوصاله وكأنه مات وانقطع عمله وكأنه أفلس وباءت تجارته بالبوار والعوار، فالدين محفوظ وأهله الأعلون متى ما كانوا مؤمنين، والحق قد تأتي عليه السنة والنوم والمرض ولكنه لا يموت ولن يموت، وهو في نومه أو مرضه لا يملك أحد مادة إيقاظه وعقار تمريضه، فهي أمور بعيدة عن الكسب ودونية المادة؛ بل مادة حياته ومحفوظيته مركوزة في طبيعة جوهره وكمالية ظهوره وصلاحيته المستعصية على تقادم الزمان وتراكمات عمار المكان الذين نراهم اليوم وقد تغشى تجاويف قلوبهم المروق والإلحاد تغشيا لا فكاك منه.
ونحن منذ أن تداعى هؤلاء العصاة الجدد ورخويات الفكر الحداثي المارق، ومنذ أن قرع جؤارهم النابي البذيء مرمى سماع الشرفاء، ومنذ أن نادى بعضهم بعضا ليكون الواحد منهم ظهيرا للآخر وعونا له في عملية السطو على تراثنا؛ والتهارش على ملامح الفضيلة والتدين الصادق المتين، حملنا الواجب الديني واجب الانتساب الحق؛ أن نؤمن بأنه من الذل والهوان والعجز أن يرتقب المرء الشرف من مخرومي المروءة ونجوم الدياثة، وكذا استمطار العفة من معشر الداعرين، والتشوف ولو باحتمال مرجوح إلى النصفة ممن حادوا عن جادة العدل ونالهم الانسلاخ عن سوي الفطرة، فمالوا كل الميل وصاروا لا يبغونها إلا عوجا.
والأدهى من هذا كله أنه وكلما نادى منادي الإصلاح اتخذوه هزؤا واستدركوا على قوله: لا تفسدوا في الأرض، ولهم في ذلك سلف، إنما نحن مصلحون فكان الرد استدراكا على هذا الإفلاس المبين {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}.
وهذا الرد الإنكاري هو الذي يجب أن تتبنى قضية إخراجه من المسطور إلى المنظور كل هيئة علمية دعوية فكرية رسمية كانت أو غير رسمية، وعليها وهي تتعاطى مع مشروع هذا الإخراج أن لا تنسى خوض هذا العراك الفكري المقدس متلبسة بإحساس عقدي مفاده تأييد السماء ورعاية الله العزيز الحكيم غير عابئة بغربتها، أو ملتفتة لأقليتها أمام تعاظم ركام الكثرة الغثائية.
كما عليها وهي تحمل لواء المواجهة أن تفتح باب الرجاء في الله؛ رجاء النصرة والتأييد؛ مترقبة على طول خط المطارحة عونه ومدده وتوفيقه سبحانه، مع الاعتقاد الراسخ أن الخصوم والمناوئين؛ وعلى الكثرة والشهرة؛ والاستنصار بقوى الاستكبار العالمي يخوضون معركتهم الفكرية -إن صح هذا التعبير ولا أراه يصح- والحال أن وعد الله الناجز نستشرف منه غلبة الحق على الباطل الذي كان أي وجد بالتأكيد والثبوت زهوقا.
ذلك أن أي معركة بين الحق والباطل يقرر الله حكمه الحاسم الذي لا استدراك عليه، ولا إقعاد لسير سيله الجارف العرم مصداقا لقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
كما أن على الذين حملوا على عاتقهم هذه المسؤولية ذات حدي التكليف والتشريف؛ ألا يعتقدوا وهم الذين تربوا على المنهج القويم؛ منهج الدعوة إلى الله على بصيرة؛ جدوى الركون إلى السلبية والمهادنة الفكرية التي قد يليها الانقطاع في دائرة ترتيب الأولويات إلى ما له صفة الاستثناء في باب مقاصدية هذا الدين العظيم.
إن هؤلاء عليهم وهم في غمرة هذا التكليف وذلك التشريف ألا تطوى قلوبهم على مسالمة ومهادنة قد يطول عليها الزمن، فنسلمها إلى الأجيال اللاحقة في صورة مداهنة وتقية ونفاق، فهم وكما نحن رسالتنا قد لا تكون محاربة الشرك في أصول أوكاره أو بين دفتي أسفار فلسفته؛ بقدر ما هي محاربة لكرهه وعدوانه وغارات المتدثرين بعباءته؛ حينما يتحركون به يبغون الجور الذي تسطلي بناره البلاد والعباد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *