قراءة نقدية لرؤية الباحث (أبو اللوز) حول الحركات السلفية في المغرب (الحلقة التاسعة) بين السلفية والسلفيين (سلفية واحدة أم سلفيات؟) بقلم حماد القباج

كنت قد ذكرت أن من أصول الأخطاء التي وقع فيها الباحث عبد الحكيم أبو اللوز في حكمه على الحركات السلفية التي جعلها محط دراسته؛ أنه خلط بشكل غير صحيح بين السلفية كمنهاج والسلفيين المنتسبين إلى ذلك المنهاج.

وهذا الخلط لا بد أن يورث أخطاء في تصور ماهية السلفية والحكم عليها؛ ولعل من أبرز تلك الأخطاء تقسيم السلفية إلى سلفيات كما قال الباحث: (تشترك السلفيات …) .1
ومن تلك الأخطاء قوله: (يشترك السلفيون أيضا في القول بضرورة الأخذ عن السلف الصالح المشهود له بالخيرية، وذلك باستعمال ما كان من كلامهم الذي هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة، وهكذا فالطريق إلى الوصول إلى المعنى الصحيح هو الرجوع إلى ما كان عليه الأولون والأخذ بفهومهم للنص الديني) .2
وهذا الكلام يدل على أن الباحث لا يفقه معنى السلفية التي كلف نفسه عناء نقدها.
إن حقيقة السلفية باختصار: منهاج لفهم النص والاستنباط منه والعمل به، وهو قائم على التزام أصول السلف الصالح في ذلك كله، واعتبار إجماعهم حجة، واعتبار اتباعهم من المحجة.
وهذا الالتزام لا يمثل حجرا على الفكر أو تضييقا لواسع، بقدر ما إنه ضبط لسلوك التدين وعمليتي الاجتهاد والاستنباط، من التسيب والتفلت.
وليت شعري كيف يصح أن نوصف بأننا متمسكون بديننا، معتصمون به من الذوبان في ثقافة غيرنا؛ إذا كنا نبقي على اسمه ورسمه، ونضيع معانيه الصحيحة حين نزج بها في أوحال الفهوم المختلفة تارة باسم النورانية والكشف، وتارة بسبب المذهبية الجامدة المتعصبة، وتارة باسم العقلانية، وتارة باسم العصرانية والتقدمية وجعل المقروء معاصرا للقارئ …إلـخ.
فقوله بأن السلفية تعني أن كلام السلف الصالح هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة؛ يتسم بكثير من السطحية والجهالة.
ومثله قوله: (يضخم السلفيون من دور النص، ويتجاهلون دور العامل الإنساني الذي يقوم بتفسير النص، ويرون أن النص ينظم معظم جوانب الحياة، ومن يحدد معناه هو قراؤه من الصحابة، أما الآخرون، فتنحصر وظيفتهم في تلقي النص وتطبيقه. ففي النموذج السلفي، لا علاقة لذاتيات الطرف المفسر غير الصحابي بفهم الأحكام الإلهية أو تنفيذها، فهذه الأحكام موجودة بالكامل وبوضوح في حرفية فهم السلف للنص، وبالتالي لا دور للتأملات الأخلاقية والجمالية الخاصة بالطرف المفسر ولا دور لتجاربه، بل لا حاجة إليها أصلا) .3
وهذا كذب محض؛ فباب الاستنباط من النص مفتوح لكل مؤهل، وكل معنى فهمه واستنبطه بالطريقة الشرعية فهو مقبول، ويبقى النظر في صحته وخطئه.
والتزام الضوابط والمسالك الشرعية في الاستنباط لا يعني إلغاء التأملات الأخلاقية والجمالية الخاصة بالمفسر، وإلغاء تجاربه، بل يعني: صيانة النص من أن يحمل معنى لا يدل عليه:
قال ابن القيم معلقا على قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا؛ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه.
ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد” . 4
وهذا هو الوسط العدل بين جفاء الحرفية التي اتهم بها الباحث السلفية، وميوعة الذين يريدون أن يفهموا من النص ما يريدون هم لا ما يريده المتكلم، ولذلك يتحررون من الضوابط والآداب الشرعية للاستنباط، ويبتدعون طرائق باطلة في ذلك؛ كالكشف والقراءة العقلانية والقراءة العصرانية .. إلـخ.
ولابن القيم نفسه باع كبير في هذا الباب، فليراجع الباحث كتبه ليدرك سعة الأفق ورحابة الفكر، وليقف على الصورة الحقيقية للتأملات الأخلاقية والجمالية التي تمكن السلفية منها الطرف المفسر.
وعودا على بدئ أقول:
إن من جوهر التوضيح أن أبين أن ذلكم القيد في فهم النص واستنباط معانيه إنما هو حكم شرعي، وواجب دلت عليه النصوص دلالة تتجاوز الظاهر المحتمل إلى النصية القطعية إذا ما نظرنا إليها مجتمعة، وليس رأيا ابتدعه عالم أو مصلح؛ كأحمد ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو غيرهم.
وفيما يلي بعضا من تلك النصوص:
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}التوبة 100.
وقال سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}النساء 115.
وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”( 5).
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: “ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين؛ ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة”(6 ).
وفي رواية صحيحة مفسرة لهذا اللفظ، مبينة له، قال: “هي التي تكون على مثل ما أنا عليه وأصحابي”(7 ).
ومن أراد استيضاحا حول دلالات هذه النصوص فليراجع: الرسالة للإمام الشافعي والموافقات للإمام الشاطبي وإعلام الموقعين للإمام ابن القيم.
قال الأستاذ محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني في كتابه “سلفية الإمام مالك” 8: “هؤلاء الأصحاب في سلوكهم الجماعي وفي فهمهم الجماعي لما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هم الذين يمثلون الإسلام أصدق تمثيل، وبذلك يدخل هذا السلوك الجماعي، وهذا الفهم الجماعي في نطاق المقدسات الدينية التي يجب الاعتماد عليها في فهم الوحي الإلهي”.
ولعل ما تقدم كاف لإزالة الغبش عن ماهية السلفية، والنأي بها عن المعاني الضيقة، كتلك التي يفسرها بها كتاب وباحثون علموا شيئا وغابت عنهم أشياء؛ فحصروا السلفية في حركة معينة، أو شكلانية مفرطة أو نصوصية جامدة ..إلـخ.
أما السلفيون؛ فهم المنتسبون إلى ذلك المنهاج الذي أشرت إلى ماهيته وحقيقته، وهذا الانتساب أو الانتماء لا يعني أبدا العصمة ولا السلامة من الخطأ والزلل.
بل إن في أولئك المنتسبين؛ الصادق المخلص والمدعي الكاذب، الذي أظهر الانتساب لحاجة في نفسه.
والصادقون فيهم العالم والجاهل وطالب العلم، وفيهم حسن الخلق وسيء الخلق، وفيهم جيد الفهم وصاحب الفهم السقيم أو الضعيف؛ وينطبق على الجميع قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/32]
والفرق بينهم وبين غيرهم من المسلمين أنهم ينتسبون إلى السلف الصالح، في حين ينتسب غيرهم إلى شخص أو مذهب أو جماعة؛ فالصوفي مثلا ينتسب إلى طريقة من الطرق الصوفية يرى أنها تحقق له السمو الروحي، والمعتزلي ينتسب إلى طائفة المعتزلة التي يظن أنها تفهم الإسلام في ضوء العقل، فهي بالتالي تشبع ميولاته العقلانية، والأشعري ينتسب إلى منهاج أهل الكلام في تقرير المعتقد الذي كان عليه الإمام الأشعري في إحدى مراحله الفكرية، ويرى هذا المنتسب أن هذا يحقق له وسطية واعتدالا…
أما السلفي فإنه ينتسب إلى السلف الصالح ويتمسك بمنهاجهم في الفهم وممارسته للتدين؛ وهذا يحقق له السمو الروحي، والانسجام بين دلالات النص الشرعي ومقتضيات العقل المرعي، كما يجعله على طريق الاعتدال والوسطية حقا وصدقا؛ لأن السلف الصالح وأتباعهم (أهل السنة والجماعة أو السلفيون) كانوا دائما عَلما على الوسطية بين فرق المسلمين كلها.
فالسلفي يمتاز بأنه يجمع الصواب الموجود عند الطوائف الأخرى، ويسلم من أخطائها؛ وذلك بقدر صدقه وجده في الانتساب إلى السلفية، وبقدر اجتهاده في الترقي في سلمي العلم والعمل.
وبقدر التقصير في مقتضيات الانتماء ومستلزمات الانتساب بقدر ظهور الخلل في فكر السلفي المنتسب وسلوكه، وبقدر ضعف إحدى قوتيه العلمية أو العملية بقدر وقوعه في أخطاء القول والفعل.
وعليه فإن من الخطأ المحض ما نسمعه ونقرأه من أن السلفية أنواع، وأنها تنقسم إلى سلفية عقلانية (الأفغاني) وسلفية وهابية، وإلى سلفية وطنية وسلفية حنبلية، واشتهر عندنا في المغرب تقسيمها إلى: علمية وتقليدية ومغراوية وجهادية… إلـخ.
فالسلفية واحدة، والمنتسبون إليها يتنوعون بتنوع أزمنتهم وبيئاتهم ومذهبهم الفقهي ونشأتهم العلمية والتربوية وأخلاقهم ودرجة فهمهم وقدر صدقهم ومدى التزامهم بأصول السلفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  السلفية التقليدية والسلفية الجهادية؛ أية علاقة؟/دفاتر وجهة نظر(ع.15/ص.116).

[2]  المصدر نفسه (ع.15/ص.115).

[3]  السلفية التقليدية والسلفية الجهادية؛ أية علاقة؟/دفاتر وجهة نظر(ع.15/ص.116).

[4]  إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 308).

([5]) متفق عليه.

([6]) حديث صحيح؛ رواه الترمذي وغيره.

([7]) حديث حسن؛ رواه الترمذي (2565) وقال: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مُفَسَّر”.

[8]  ملحق بكتاب “الإمام مالك” لمحمد المنتصر بالله الكتاني ص145.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *