أعلى الإسلام من شأن العقل، ورفع مكانته، وخاطبه بالتكاليف الشرعية، وجعله مناطا لها، وأمر بالتفكر والتذكر، وأثنى على أهله، كما قال سبحانه: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقرة/269، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الرعد/19، وقال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) إبراهيم/52، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص/29، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر/18.
قال الشاطبي رحمه الله: “مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء التام؛ حتى إذا فُقِدَ: ارتفع التكليف رأسًا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة” انتهى من “الموافقات “(3/209).
ودور العقل هو التفكر في النصوص، وتدبر الوحي المعصوم، لا التحكم في النصوص، ولا محاكمتها.
وهذا من وسطية الإسلام، فلا هو يلغي العقل، كما تفعل الصوفية وأشبهاهها، ولا يجعله حكما على الوحي، كما تفعل المعتزلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان هذه الوسطية، وبيان منزلة العقل:
“ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان: تجدهم في العقل على طريق:
كثير من المتكلمة يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له. والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية والمقامات الرفيعة لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذب به صريح العقل. ويمدحون السكر والجنون والوله وأمورا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها ممن لم يُعلم صدقه.
وكلا الطرفين مذموم، بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلا بذلك؛ بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها.
وإن عزل بالكلية: كانت الأقوال والأفعال مع عدمه: أموراً حيوانية قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما قد يحصل للبهيمة.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل: ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة. والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يُعلم بالعقل امتناعه.
لكنِ المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها، لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به.
والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم” انتهى من (مجموع الفتاوى 3/338). وينظر للفائدة: “منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد” عثمان علي حسن (1/157-182).
تبين بما سبق: أن ضلال المعتزلة إنما كان بمبالغتهم في تعظيم العقل، حتى قدموه على نصوص الشرع، وأدخلوه فيما ليس في حدوده، ولا في طوقه، ولا هو تحت سلطانه، من التحكم في أمور الغيب، والقضاء فيها بمجرد النظر العقلي.
وعامة أصول المعتزلة التي انحرفوا فيها عن منهج الكتاب والسنة، كان رائدهم فيها هو ما ظنوه معقولا، كنفي الصفات، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، وإنكار خلق أفعال العباد، ونفي رؤية الله في الآخرة، والزعم بأن القرآن مخلوق، وغير ذلك من ضلالاتهم، ولهذا أعرض أهل السنة والجماعة عنهم، وعلموا قبح معارضة الوحي بالأقيسة والخيالات التي يظن أصحابها أنها معقولات، وإلا فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، ولا تأتي الشريعة بشيء من محالات العقول، لكن قد تأتي بما تحار فيه العقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما يظن تعارضها: من صدق بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات، إن كان ذلك معارضا لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون كذبا عليه، أو ما يظنه لفظا دالا على شيء، ولا يكون دالا عليه” انتهى ممن (الرسالة العرشية ص: 35).
وقال ابن القيم رحمه الله: “الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر.
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا، وكل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدًا، وهو شبهة خيالية، يظن صاحبها أنها معقول صريح ” انتهى من (الروح ص 62).
والحاصل أن العقل له دوره وأهميته، لكن من عارض به الوحي، وأقحمه في غير مجاله، ضل عن سواء السبيل.