من أصول الاستدلال عند أهل السنة والحديث: اعتماد الإجماع رشيد مومن الإدريسي

تعريف الإجمـــاع
اصطلاحا: “هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته في عصر من الأعصار على حكم شرعي”.
شرح التعريف: “الاتفاق” جنس يعم أشياء متعددة يخرج غير المراد منها بالقيود الآتية لذلك؛ فخرج بإضافته إلى “المجتهدين”: المتعلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد فضلا عن العامي ومن في حكمه فلا عبرة بموافقتـهم ولا بخلافهم، وخرج به أيضا حصول الإجماع من بعض المجتهدين دون بعض.
وخرج بقيد (من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-) إجماع غيرها من الأمم، والمراد بالأمة أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
وخرج بقيد بما (بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم) بيان بدأ الوقت الذي يوجد فيه الإجماع أما في زمن حياته -صلى الله عليه وسلم- فلا اعتداد بالإجماع لأنه زمن نزول الوحي.
والمراد بقولنا (في عصر من الأعصار) الإشارة إلى اعتبار الإجماع في أي عصر وجد بعد زمن النبوة سواء.
في ذلك عصر الصحابة ومن بعدهم.
وخرج بقيد (علم حكم شرعي) اتفاق مجتهدي الأمة على أمر من الأمور العقلية أو العادية مثلا.

حجية الإجماع
ذهب جماهير العلماء، على أن الإجماع حجة شرعية، وحكى بعضهم الاتفاق، كأنه لم يعبأ بالمخالفين، واستدلوا على حجيته بمجموعة من الأدلة.
من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. ووجه الدلالة منها: أن الله -تعالى- جمع بين مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين مخالفة سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور، ومتابعة غير سبيلهم تقع بمخالفة أقواهم أو أفعالهم.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق..” الحديث، فلو أجمع أهل عصر من العصور على باطل لتخلف مصداق الحديث في ذلك العصر لعدم وجود ظهير للحق فيه وذلك باطل فبطل أن يكون إجماعهم على خلاف الحق إذا فهو حجة يجب اتباعه.
ومن الأدلة على الحجية قوله -صلى الله عليه وسلم-  في الحديث الصحيح: “لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا”.
ومن الأدلة دلالة العقل -كذلك- وهي أن يقال: إنه قد ثبت قطعا أن نبينا -عليه الصلاة والسلام-، خاتم الأنبياء، وأن شريعته دائمة إلى قيام الساعة، ثم وقعت حوادث ليس فيها نص قاطع من كتاب أو سنة، لكن أجمعت الأمة على حكمها، فلو قلنا: إن إجماعهم ليس بحجة، وأن الحق قد خرج عنهم، أو إنهم أجمعوا على الخطأ، للزم أن تكون شريعته غير دائمة، فيؤدي ذلك إلى الخلف في أخبار الشارع، أو أن يكون إجماعهم حجة مثبتا للحق، لئلا يؤدي إلى المحال، وهو انقطاع الشريعة، وعدم بقائها واستمرارها.
 
ما يفيده الإجماع
اختلف القائلون بحجية الإجماع فيما يفيد على أقوال:
والقول الصحيح التفصيل بين ما اتفق عليه المعتد بهم، فيكون حجة قطعية، وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي، فيكون حجة ظنية. وهذا هو الصحيح الذي رجحه كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

مستند الإجماع
الصحيح في هذه المسألة أنه يشترط في الإجماع أن يكون له مستند، وهو مذهب الجمهور.
وحكى الآمدي -رحمه الله- الاتفاق عليه ولم يعبأ بالمخالف؛ ثم اختلفوا في كون المستند قطعيا، أو ظنيا على مذاهب والصحيح مذهب الجمهور منهم وهو: جواز أن يكون المستند قطعيا: من كتاب، أو سنة متواترة، أو ظنيا كخبر الواحد، أو قياس، أو أمارة.

هل يشترط للإجماع انقراض العصر؟
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: “ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجتمعين فينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد، لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم، فما الذي يرفعه؟” شرح الأصول من علم الأصول 505.

الإجماع بعد الاختلاف
قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله-: “..وهل إذا مات (أي واحد من المجتهدين) وهو مخالف ثم انعقد الإجماع بعده يكون إجماعا وهو الظاهر أو لا يكون إجماعا؛ لأن الميت لا يسقط قوله بموته، خلاف معروف في الأصول أيضا” أضواء البيان 1/246.
والظاهر صحة الإجماع بعد خلاف كما ذكر الشنقيطي -رحمه الله- لعموم قوله عليه الصلاة و السلام: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق..”.
وإجماع العلماء على أمر شرعي بعد خلاف -إذن- هو حق فدل ذلك على صحته وحجته، فتأمل -والله أعلم-.
قال ابن جزي -رحمه الله-: “يجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد وفي العصر الثاني” تقريب الوصول إلى علم الأصول 130.

ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: ..ولم يكن (أي الإمام أحمد -رحمه الله-) يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس إجماعـــا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع، ولفظه: “ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا”. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: “سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟..”.
ونصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع. لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده ” إعلام الموقعين 1/30.

هل يمكن أن يقع إجماع على خلاف نص ثابت رواية صحيح دراية1؟
قال ابن القيم -رحمه الله- “ومحال أن تجمع الأمة على خلاف نص إلا أن يكون له نص آخر ينسخه” الإعلام 1/267..

إحداث قول ثالث
قال ابن جزي -رحمه الله-: “إذا اختلف أهل العصر الأول على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث خلافا للظاهرية” تقريب الوصول 130.
لأن اختلافهم على قولين {مثلا} هو إجماع ضمنا على عدم جواز القول الثالث. ثم في إحداثه نسبة للأمة إلى ضياع الحق والغفلة عنه وهو باطل قطعا.
…………………………

  1. قلت ذلك: لأنه قد يقع الإجماع على خلاف نص؛ فيكون هذا الأخير معلولا كما هم معروف عند النقاد في “علم مصطلح الحديث” فتنبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *