تحرير الفكر والعقيدة من الجمود والدخيل أنور الجندي

ظهرت اليقظة الفكرية العربية قبل بوادر حركة النفوذ الاجتماعي بوقت طويل وجاءت حركتها منبثقة من ضمير الفكر العربي الإسلامي وله سوابقه، وكان للفكر الإسلامي والثقافة العربية موقف ورأي من كل ما استقدمه الاحتلال من حضارة وفكر، لم يكن هنالك تسليم كامل أو تقبل كامل لحضارة الغرب أو فكره، وإنما كانت هناك مراجعة وتقدير للموقف وعرض له على ضوء مفاهيم الإسلام وقيمه، ولقد واجه العرب والثقافة العربية، كما واجه المسلمون والفكر الإسلامي هذه الحملة الغربية الاستعمارية مواجهة شاملة في مختلف الميادين: وأهمها ميادين الحرب والسياسة والفكر.

كانت المقاومة العسكرية هي سلاح المقاومة الأول، وقد توقف هذا السلاح بعد أن قدم الضحايا والشهداء، لأن الأسلحة الحديثة الغربية كانت أقدر قدرة على الانتصار، بالإضافة إلى سلاح المؤامرة والغدر الذي حقق به العدو انتصارا في المعارك الفاصلة، مع الأمير عبد القادر في الجزائر، وعرابي في مصر ويوسف العظمة في الشام، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وكان التفوق العسكري الغربي عاملا هاما دفع المسلمين والعرب إلى الجهاد في ميدان السياسة بهدف بناء وحدة أو جامعة أو رابطة تقف في وجه النفوذ الغربي الزاحف ومن هنا ظهرت حركة الجامعة الإسلامية كمحاولة سياسية للمجتمع غير أن الغرب استطاع أن يفل هذا السلاح ويحول دون تحقيق الوحدة بسيطرته على الأقطار المختلفة وعزلها عن جاراتها وإقامة حكومات خاضعة لنفوذه، هنالك تحولت المقاومة إلى السلاح الأقوى: سلاح الثقافة والفكر، هذا السلاح الذي كان أكثر قدرة على المقاومة، كانت الحركات المختلفة: ذات الطابع الإسلامي الخالص، ثم ذات الطابع القومي الخالص، وذات الصبغة السياسية الثقافية، وذات الصبغة الفكرية الخالصة، وفي مجالات التربية والصحافة والخطابة والكتابة، كلها تمثل في مجموعها تحركا بالغ المرونة والصلابة في مواجهة النفوذ الأجنبي الزاحف للسيطرة والاستعمار.
وهذا النفوذ أيضا لم يكن نفوذا سياسيا ولا عسكريا فحسب، ولكنه كان إلى ذلك نفوذا ثقافيا يعرف مدى الخطر الذي ينبعث من آفاق الفكر الإسلامي من قيمه كقوة بعيدة المدى في المعارضة والمواجهة والمقاومة.
ومن هنا برزت خطط النفوذ الأجنبي المتمثلة في خلق تيارات التغريب والشعوبية وتغذيتها وذلك كسلاح أكثر خطورة وأشد فتكا من سلاح الجيوش المقاتلة للقضاء على الروح المعنوية، والقيم الأساسية المواجهة، وخلق طابع من تمييع القيم، وإعلاء مفاهيم الغرب، وبناء محطات التقاء في منتصف الطريق ترضى بالحلول الوسطى، وتتنازل عن الحقوق والحريات، وترضى بصداقة المستعمر، وتعلي ثقافته، وتحتقر مقوماتها الأصلية، وتتقبل تاريخه ومثله ومفاهيمه.
هذه هي المحاولة الخطيرة التي حرص الاستعمار على تحققها عن طريق الثقافة، وهي نفس الهدف الذي حرصت الثقافة العربية المنبثقة من الفكر الإسلامي أن تقاومها في إصرار، لم تكن هذه المقاومة مقاومة متعصبة مغلقة، ولكنها كانت مرنة نيرة، فالمسلمون والعرب لم يرتضوا الفكر الغربي كلية، وإنما رفضوا قيمه المتعارضة، مع مثلهم العليا وانتفعوا بأساليبه ومناهجه، وكانوا وفق مفهومهم الأساسي قادرين على الانفتاح على مختلف الثقافات، وفق مقوماتهم الأساسية، يأخذون ويدعون، فقد كانت لهم تجربة سابقة، في مرحلة الترجمة والنقل من الثقافات اليونانية والهندية والفارسية، وإن كان هناك خلاف جذري بين الموقفين، الموقف الحاضر وللموقف الأول، فقد كانت لهم إذ ذاك الحرية الكامنة في النقل والاقتباس والاستيعاب والصهر والبلورة والتمثل للفكر الإنساني، حيث هم الذين سعوا إليه بإرادتهم ونقلوه، أما اليوم فليس لهم مطلق الحرية في الاقتباس والنقل، فقد غزاهم هذا الفكر غزوا وفرض وجوده عليهم فرضا، ونقل إليهم عن طريق القوى المحتلة المسيطرة القادرة بإرادتها وأساليبها على فرض هذا الفكر وإذاعته، وهي قوى ذات نفوذ لا تريد أن تنقل إلى العرب والمسلمين إلا المفاهيم والقضايا البالغة الاضطراب والمليئة بالشكوك والشبهات بقصد الإثارة والبلبلة، وهزيمة الفكر الإسلامي فهي لا تعني إلا نقل قضايا الإلحاد والإباحة وكل ما يتصل باحتقار الأديان والأخلاق والقيم، وإثارة الأهواء حول القيم الأساسية العربية والإسلامية.
وقد حجبت من حضارتها وفكرها عن المسلمين والعرب الجوانب الايجابية القوية في ميدان العلم والتكنولوجيا، هذه التي أعطت ثمرات الصناعة والقوة والسيطرة المادية.
فالالتقاء بين الفكر العربي والفكر الإسلامي في مرحلة النفوذ الأجنبي لم يكن التقاء حرا مطلقا، ولم يكن متاحا للفكر العربي فيه أن يأخذ جوانب القوة والحيوية، بل على العكس من ذلك كان النفوذ الأجنبي قادرا بالسيطرة على وسائل الثقافة:
المدرسة والصحيفة وعن طريقها أخذ يبث دعوتين خطيرتين: دعوى الانتقاص للتاريخ واللغة العربية والإسلام بإثارة الشبهات والشكوك، ودعوى إذاعة مذاهب الإلحاد والإباحية والمادية.
ولقد كان حرص النفوذ الاستعماري قويا على أن يركز في هذا الغزو الثقافي على الأمة العربية بعد أن زلزل الرابطة القائمة بين الدولة العثمانية والأمة العربية وأثار بينهما خصومات أساسية اتصلت بكثير من المفاهيم والقيم.
وكان مصدر هذا الحرص هو اليقين بأن الأمة العربية هي أقدر أجزاء العالم الإسلامي قوة على فهم الإسلام، وفيها تتمثل أصدق مفاهيمه وأصفى مقوماته، ومن قلبه برزت دعوة التوحيد وتوالت دعوات الوحدة الإسلامية والإصلاح وتحرير الفكر من قيود التقليد.
ولقد كانت الدعوة إلى الوحدة العربية في أول أمرها سلاحا أراد به الاستعمار أن يخرق وحدة العرب والترك المتمثلة في «الدولة العثمانية» فلما حمل المسلمون لواء الوحدة العربية، عمد إلى تدمير هذه القوة الجديدة التي استهدفت إقامة وحدة جديدة بعد أن تفرقت الجامعة الكبرى، فأخذ يثير حولها الشبهات ويضربها من الداخل بتحريف مفهومها وعزله عن جذور الثقافة العربية أو إثارة الخلافات بين الأجزاء العربية.
ولم يكن مفهوم الدين في الفكر الإسلامي شبيها بمفهوم الدين في الفكر الغربي، وليس الإسلام أساسا دينا فحسب، ولكن الدين جزء منه، وهو نظام مجتمع وحضارة وفكر، هذا المجتمع ليس مجتمع المسلمين وحدهم بل هو مجتمع كل من أظلتهم الدولة الإسلامية، وليس هذا الفكر هو فكر المسلمين وحدهم، ولكنه فكر المنطقة كلها، وقد انصهرت فيه كل الفلسفات والمذاهب والعلوم والثقافات القديمة وتبلورت في إطاره، وليست الوحدة العربية إلا «وحدة فكر» قبل أن تكون وحدة سياسية أو وحدة اقتصادية، والثقافة العربية مستمدة أساسا من الفكر الإسلامي ولها كل مقوماته وقيمه الأساسية وجوهره ومضمونه، وإذا كان بعض المفكرين يرى أن اللغة والتاريخ ليسا في الحقيقة إلا :«ضمير» الثقافة العربية، فليس هناك انفصال بين الوحدة العربية وقاعدتها، ولا سبيل لأن تقوم الوحدة العربية بعيدة عن وحدة الثقافة العربية أو قاعدة الفكر العربي الإسلامي، وهذا هو الخطأ في الفهم الذي جر إلى كثير من المساجلات والمجادلات.
وإذا كانت الوحدة العربية هي وحدة لغة، فاللغة العربية هي أساس للفكر الإسلامي والثقافة العربية جميعا، ومن هنا، فإن تحرير القومية من مفهوم الدين الصحيح ولكن تحرير الوحدة العربية من الفكر الإسلامي أمر مستحيل، وإذا كانت الوحدة الإسلامية وحدة يقوم بها الإسلام كفكر ودين وحضارة فإن الوحدة العربية وحدة أمة قاعدة تاريخية ولغتها مستمدة من الإسلام كفكر وحضارة، ومن هنا فإن العمل للوحدة الإسلامية كان مرحلة جاءت في ظل قيام الدولة العثمانية، أما العمل للوحدة العربية فهي مرحلة تالية بعد سقوط هذه الدولة وعلى مستوى أكثر تناسقا، ولكنها في مجموعها وفي مختلف صورها، ليست إلا محاولة لمقاومة النفوذ الأجنبي: سياسيا وفكريا.
والحق أن الأمة العربية حين استيقظت في منتصف القرن التاسع عشر إنما كانت تتطلع إلى أن تعود إلى مكانها في قيادة الفكر الإسلامي وهو دور طبيعي في دوره التاريخي، غير أن هذا العمل لم يتأت له أن يتحقق على الوجه الصحيح فقد جاءت سيطرة النفوذ الأجنبي على العالم الإسلامي لتضاعف عمل اليقظة وتضيف إليه عملا جديدا في ميدان المقاومة ومن هنا فإن الفكر الإسلامي والثقافة العربية واجهت مرحلة خطيرة كان عليها أن تعمل في ميدانين في وقت واحد:
ـ اليقظة وتحرير العقيدة والفكر.
ـ مقاومة النفوذ الأجنبي.
وقد كانت كل واحدة من القضيتين تحقق نتائج هامة في محيط القضية الأخرى، فتحرير العقيدة والفكر يعطي النفس العربية والإسلامية القوة على المقاومة، والمقاومة تشحذ الهمة للكشف عن جوهر الفكر الإسلامي في مواجهة الحملة عليه ولدحض الشبهات المناورة حوله ومن هنا يصدق القول بأن جميع حركات اليقظة دينية أو وطنية أو ثقافية، وكل حركات المقاومة سواء في نطاق الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية أو الجامعة العربية أو القومية الضيقة، والوطنية إنما كانت جميعها تستهدف القضاء على النفوذ الأجنبي أساسا ولم تكن في مجموعها مغلقة وإنما كانت مرحلة تستهدف أن تتوسع بعد أن تحقق هدفها الفرعي، ومما استرعى النظر أن يفهم هذا المضمون كثير من مفكري الغرب أمثال «ألفريد كانتول سميث» حين يقول: «بدت الحركات القومية جامحة تهدف إلى التخلص من التدخل الأجنبي ولم تكن هذه الحركات مطابقة للإسلام فحسب بل هي جزء لا يتجزأ من فكرة بعث الإسلام».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *