نريد أن نشط بأنفسنا عن دائرة الألقاب والمسميات التي تعد لواحق استثنائية، دعت إليها ضرورة الافتراق، ومستلزمات الخلاف، الذي تعدى الفروع إلى الأصول العظيمة، التي بني عليها ديننا العظيم، وليس المراد بهذا الشط أو النأي، تبني منهج التجريد والتلفع بسلوك التجرد، ليصير لنا مذهبا، نغرق في لجّة مجاهيله الخطيرة، بل نحن مسلمون على ملة أبينا إبراهيم، وسنبقى كذلك بفضل من الله ورحمة، مستبشرين بمنة هذه التسمية، ونعمة هذا الانتساب، وما لنا لا نفرح امتثالا والله يأمر، ويقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، ولكنه نأي وشط مرشد، ومؤقت إلى بعد حين، بعد أن نستطيع، وقد استطاع قبلنا الكثير من حراس الحدود المرابطين عند الثغور.
فجئنا نحن الصغار، وكنا عالة على إرثهم النفيس، نقتات على منتوج جهدهم الشريف، فاستطعنا بعد ما استطاعوا وبغير استفراغ الوسع، أن نرعى غنم النفس، وأنعام الطبع، بعيدين عن الوقوع في حمى المالك عز وجل، مستقيمين على هيئة الأمر، وشاكلة المطلوب، حذو القذة بالقذة، لا نبغي الزيادة على تركة التوريث المباركة، ولا نروم التطفيف من كيلها المضبوط بميزان الشرع، الذي أكمله لنا ربنا وأتم نعمته علينا، حتى تركنا خير المرسلين على البيضاء، التي كان من إعجازها ولا يزال، اشتراك الليل والنهار في منقبة الوضوح، ونورانية البيان التي استوفت شروط المعذرة، وجمعت مقومات الحجية، التي لا يزيغ عنها إلا هالك عن هالك، أبى أن يركب سفينة أبي القاسم، وآثر الاستعصام بالأسباب السرابية، فكان من الهالكين.
وهو شط ونأي، نروم من خلاله الظفر بمنقبة العض على الحق، والدعوة إليه على بصيرة من الله ورسوله، منقبة صارت مطية لكل من هبّ من خياله، ودبّ في مناكب عناده، فسلك طريق الحال، التي لا تعرف بالمقال، ولا تدرك بالأعمال، بل هي من فيض الله، فيض لا يحتاج معه القوم إلى دليل أو معين، حتى لو كان صاحب هذا المقال، والآمر بهذه الأعمال هو الصادق الأمين الذي جاءنا بهذه الرسالة، ليبلغ عن ربّّه أمانة نصح الأمة، وكشف شبهات الغمّة، ولا ضير في هذا ولا عجب، فإن القوم استعاضوا عن هذا السبيل، بغبن الالتجاء إلى الغوت والولي والقطب والأبدال، الذين يقاسمون الربّ بالزعم المريض ربوبية تدبير الكون -تعالى الله عن هذا الخرص علوا كبيرا-، ولكن الضير والعجب بعد هذا الطرح المعلول، أن يستأثروا بالولاية من دون الناس، وأن يدعوا محبة الله ورسوله حصرا وقصرا، وأن يبهرجوا لهذه المحبة متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا، برمي الأصفياء الأتقياء بالعداوة والتقصير في حق سيد المرسلين، وعظيم الدعاة، نبزا يجعلونه قنطرة لسحب بساط اللواحق التي تزيد من قيمة الانتساب، وتوجهه التوجيه الصحيح، والكفيل متى تحقق وكان بنيل شرف ركوب مقالة مالك، حيث سفينة السنة، ومركب الجنة، ولوحة النجاة، التي يحيط بها الهلاك من كل صوب وضرب، فمتى ما تحقق هذا السحب الخبيث، لبس الساحب جبة هذه اللواحق، فصار هو المحب حقا وصدقا، وهو المتبع فعلا وقولا، وهو الواحد من قلة أهل الاقتداء، فما أسهل الدعوى، وما أبشع الادعاء، وما أبعد شقة الحق..
فمن الأولى بهذه اللواحق؟ ومن الأجدر بالمحبة السنية؟
أهم الذين توقفوا اتباعا عندما سمعوا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الإحداث في الدين، ووعيد الردّ للعمل المدخون؟ أم الذين حصل إجماعهم على أن من لا شيخ له، فلا مدخل له في أمرنا هذا؟
أو الذين تعبدوا ربهم بالنقل ابتداء، والعقل عطفا، فحصل الامتثال في أسمى صور الخضوع والذل والمحبة؟
أم الذين سلكوا الطرق المتفرعة ذات المليون مسلك، وكان شعارهم في هذا السير التسليم للرؤية، وإبعاد العقل، والتزام الورد، وانتظار العجب العجاب؟
أو الذين التزموا في باب التشريع الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؟
أم الذين خاضوا في عين الباب، زادهم سراب انتظار الكشوفات والمنامات، والوساوس والخطرات، واستبدلوا السلاسل الذهبية السند، بهرطقة حدثني قلبي عن ربي؟
أو الذين امتثلوا أركان الدين بالتعظيم والتعليم؟
أم الذين واجهوها بالعلو والاستكبار، مستدلين على هذا الصد والاستصغار، بقوله تعالى: “وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ”؟
أو الذين يذكرون ربهم بالأصل الشرعي، والهيئة السنية؟
أم الذين يهتفون، ويتصايحون، بصدع وشقشقة ألسن، تجيد لوك ضمير الغائب: “هو هو”، “سمفونية” يتخللها الشطح والهز والرفع، حضرة ربانية -كما يزعم القوم-، تنقي الأنفس من أدران الحياة، وتزيل العوالق، والشوائب التي تكدر صفو الروح، فتحول بينها وبين منزلتي الإغراق والفناء، حيث شدة القرب التي يبلغ معها المريد المجد مقام اليقين، الذي يعطيه امتياز التحلل من مكرهة العبادات البدنية، التي تشغله عن متعة رؤية اليقظة، بين الشاهد والمشهود، وذلك عندهم ما تشير إليه الآية الكريمة: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، فهل يا ترى هذا اليقين، هو الذي استكبرت أمره أمنا عائشة رضي الله عنها حينما سألت نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد وجدته قائما يصلي تتفطر قدماه من شدة القيام، قائلة: أتفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها سيد العابدين، وإمام المقربين: “أفلا أكون عبدا شكورا”، عبد شكور، كان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، كما لا يملك لغيره ضرا ولا رشدا، إلا ما شاء الله، وقد شاء الله أن يكون محمد عليه السلام مذكِّرا لا مسيطرا، ومبلغا لا يهدي من أحب توفيقا، وإن كان يهدي إلى التي هي أقوم بيانا وتبليغا.
وقف يوما يخاطب عشيرته الأقربين، ويحذرهم خشية الاتكال على رابطة الضرع والدم، ويقول: “يا آل محمد قوا أنفسكم نارا، فإني لا أغني لكم من الله شيئا”، وهذا ما فهمه الإمام النووي، حيث نصّ في شرحه على مسلم، فقال: “من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين”، وهذا نبينا عليه الصلاة والسلام يقرر أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، فيقال له: “ولا أنت يا رسول الله”، فيقول: “ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته”، فإذا كان هذا شأن سيد الخلق وأتقاهم، وأخشاهم، وأعظمهم، فما بال بنيات الطرق يوزعون الأوراد الوصلة الموصلة، ويجودون بالوعود التي تدخل كل مريد ومنتسب جنات تجري من تحتها الأنهار، ويربطون محبة النبي صلى الله عليه وسلم بصك الزيارة لقبر الشيخ السالف، وشدّ الرحال للوقوف بين يدي الشيخ الخالف، الذي يأخذ من دنياك، ويعطيك من فيض قربه، وبحر سره.
فإن حصلت لك نعمة الوقوف على هذه المفارقات العجيبة الغربية، فسيحصل لك اللازم الذي مفاده الجواب اليقيني عن من هو الأولى باللواحق الشريفة، لواحق أهل الأثر والحديث، الطائفة المنصورة الظاهرة الغالبة، أهل السنة والجماعة، غرس الله الذي متى كان أشرقت الأرض بنور ربها، وبضياء سنة سيد من مشى في مناكبها، والذي متى ساد نقيضه من زقوم البدع، وعوسج المحدثات، خبى الغرس، وصار ماء الأرض إما غورا، أو ملحا أجاجا، نسأل الله السلامة والعافية والثبات على التركة البيضاء.