أدت الخلافات التي دبت بين المرينيين وبين دولة بني الأحمر في غرناطة حول تملك بعض الموانئ الأندلسية، إلى ضعف قدرة المسلمين على المقاومة، وعرض المغرب الأقصى نفسه لغزو الدول النصرانية الناشئة، منذ بداية القرن التاسع الهجري (بداية القرن الخامس عشر الميلادي)، حتى سقطت سبتة في أيدي البرتغاليين سنة 855هـ / 1415م، فضعف أمر المرينيين، وزاد وضع دولتهم سوءًا بتفشي المنافسات الداخلية بعد مقتل السلطان أبي سعيد سنة 823هـ/ 1420م، وتدخل دولتي بني الأحمر وبني عبد الواد في تلك المنافسات لتأييد هذا أو ذاك من المدعين العرش، حتى انتقل الحكم إلى أيدي الوطاسيين في منتصف القرن التاسع الهجري، وأسلاف الوطاسيين فرع من بني مرين سيطروا على فاس سنة 875هـ/1471م، ولم يبق للمرينيين سلطان بعد ذلك تقريبًا إلا بمدينة مراكش.
من هم الوطاسيون؟
بنو الوطاس فخذ من قبيلة “بنى مرين”، ولكنهم ليسوا من فرع الأسرة المرينية الحاكمة، والوطاسيون سلاله أمازيغية تنحدر من إحدى فروع قبيلة زناتة البربرية من منطقة الزاب في الجزائر. كان موطنهم في الأجزاء الشمالية من الصحراء المغربية، وفي القرن الثالث عشر الميلادي نزحوا إلى شرق المغرب وعمروا منطقة الريف.
العداء بين الوطاسيين والمرينيين:
وقد قامت علاقة حذرة بين أسرتي بنى وطاس وبنى مرين، ثم تعدى “بنو وطاس” هذا الحذر، واتخذوا موقفًا عدائيا من دولة بني مرين منذ قيامها، وساندوا الموحدين في صراعهم معهم، ومن ثم عمد المرينيون -بعد قيام دولتهم واستقرار الأوضاع لهم- إلى إحكام قبضتهم على حصن تازوطا الذى كان مقر بنى وطاس في ذلك العهد، ولكن الوطاسيين قاموا بثورة في سنة (691هـ / 1292م) للاحتفاظ بنفوذهم في هذا الحصن، وامتدت ثورتهم فشملت منطقة الريف، ثم طردوا الوالي المريني وحاشيته، وسيطروا على الحصن، مما دفع السلطان يوسف بن يعقوب المريني إلى تجهيز جيش كبير، جعل عليه عمر بن المسعود بن خرباش أحد قادته المخلصين، وأمره بالتوجه إلى حصن تازوطا، ثم خرج السلطان بنفسه على رأس جيش آخر، وحاصر الجيشان الحصن مدة عشرة أشهر، وتمكن عمر وعامر ابنا يحيى بن الوزير الوطاسي زعيما الوطاسيين من الفرار بأموالهما إلى “تلمسان”، ودخل السلطان الحصن، وأنزل العقاب بالوطاسيين ثم عاد إلى عاصمته فاس في آخر جمادى الأولى سنة 692هـ/ أبريل1293م.
مذبحة الوطاسيين على يد عبد الحق المريني:
وبولاية أبي زكريا بن يحيى بن زيان الوطاسي الوزارة بدأت الفتن والقلاقل، فمنذ توليه الأمر استقل بالحجابة، وأخذ في تغيير مراسم الملك وعوائد الدولة، وزاد ونقص في كل ما أبرمه الوزراء، وعامل الرعية بالعنف، وقام بعزل قاضي فاس الفقيه أبي عبد الله محمد بن محمد بن عيسى بن علال المصمودي وقدم مكانه الفقيه يعقوب التسولي، وكان المصمودي من الذين يتحرون العدل والدين، فلما رأى السلطان عبد الحق (آخر سلطان الدولة المرينية) فعل الوزير واستحواذه على أمور الدولة، تبيَّن له أن الوطاسيين قد شاركوه الملك وكادوا يغلبونه على أمره، فقبض على الوزير يحيى وأخويه أبي بكر وأبي شامة وعمهم فارس بن زياد الوطاسي وذبحهم جميعًا.
محمد الشيخ الوطاسي مؤسس الدولة:
وعندما وصل خبر النكبة إلى محمد الشيخ هرب لا يلوي على شيء، واختفى الحلو حتى إذا هدأت الأحوال لحق بالشيخ فسارا إلى جهة الصحراء وجعلا يترددان فيما بينها وبين البلاد الهبطية حتى ملكا أصيلا، وذلك قبل استيلاء البرتغاليين عليها، ولما قوي أمره واستفحل بأصيلا تطلع إليه أعيان فاس وكاتبه الرؤساء من دولة السلطان عبد الحق وصاروا يقدمون إليه الوسائل سرًا ووجها إليه الدعوة للقدوم إليهم مقابل طاعته ونصرته.
سقوط غرناطة الأندلس:
وفي عهد الشيخ محمد الوطاسي سنة 897هـ استولت الملكة إيزابيلا على قاعدة بلاد قشتالة وعلى غرناطة ومحت دولة بني الأحمر من جزيرة الأندلس وتفرق أهلها في بلاد المغرب وغيرها، وانتقل أبو عبد الله الأحمر آخر ملوك الأندلس لاجئا إلى الشيخ الوطاسي في فاس بأهله وأولاده وبني فيها عدة قصور على الطراز الأندلسي وتوفي بها سنة 940هـ.
الاحتلال البرتغالي في بلاد المغرب:
وواصل البرتغاليون نفوذهم في المغرب فاستولوا على ساحل البريجة بين أزمور وتيط سنة 907هـ وكانت أرضًا خالية فبنوا فيها مدينة جديدة، واستولوا على سواحل السوس وبنوا حصن فونتي بقرب المكان الذي أنشئت فيه بعد ذلك مدينة أغادير.
أبو عبد الله محمد البرتغالي:
واستمر محمد الشيخ الوطاسي في الحكم حتى وفاته بفاس، فتولـى الأمر بعده ابنه محمــد البرتغالي، سنة (910هـ /1505م). ويبدو أن انقسام القبائل العربية والتطلع إلى الحكم قد أفسح المجال لحماية برتغالية فعلية ونفوذ سياسي خطير، فقد وقع المغرب في منطقة نفوذ البرتغاليين الذين اتخذوا من بعض المراسي المغربية ملجأ لأساطيلهم.
السلطان أبو حسون الوطاسي :
بويع أبو الحسن علي بن محمد بن الشيخ بن أبي زكرياء بن زيان الوطاسي الذي يعرف بأبي حسون الباديسي بفاس سنة 932هـ، فقبض عليه أبن أخيه أبو العباس أحمد بن محمد البرتغالي وخلعه.
السلطان أبو العباس أحمد بن محمد البرتغالي:
وأشهد أبو العباس على عمه بالخلع في آواخر سنة 931هـ. وهكذا نجد أن الوطاسيين أنفسهم قد بدأوا مرحلة الصراع على الحكم وظهر الانقسام بين أفراد الأسرة المالكة في الوقت الذي كان يجب عليهم الوقوف يدًا واحدة لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدد بلادهم. وبتولي السلطان أبي العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد البرتغالي الذي بويع يوم خلع عمه حسون بدأت مرحلة جديدة أولها أنه عقد هدنة مع النصارى.
ظهور قوة السعديين ومعركة أنماي:
وبدأ الصراع بين الوطاسيين والسعديين الذين حشدوا الناس إلى جانبهم بحجة الدفاع عن البلاد من خطر الإسبان ولكنهم كانوا في حقيقة الأمر يسعون لإسقاط دولة الوطاسيين، ونجح السعديون في السيطرة على بعض المدن المغربية، وكان لابد من المواجهة بينهما فكانت معركة قوية في موضع يقال له أنماي قرب مراكش سنة 935هـ.
وقعة أبي عقبة بوادي العبيد:
تعد هذه المعركة من أعظم الوقائع بين الوطاسيين والسعديين، والسبب فيها أن السعديين قد تجاوزا حدودهم المقررة لهم وكادوا أن يصلوا إلى فاس مقر الوطاسيين، فنهض إليهم السلطان أبو العباس الوطاسي في أواخر سنة 942هـ في جمع كثيف، والتقى الطرفان بمشرع أبي عقبة أحد مشارع وادي العبيد من تادلا، و نشبت الحرب أيامًا إلى أن انهزم الوطاسيون سنة 943هـ، ورجع أبو العباس الوطاسي إلى فاس وسميت هذه السنة سنة أبي عقبة.
السلطان أبو حسون الوطاسي مرة أخرى:
وتمكن أبو حسون الوطاسي بمساعدة الجزائريين من إحياء تلك الدولة لبضعة أشهر، لتختفي نهائيا بمقتله في الصدام مع الحملة التي شنها عليه السلطان محمد الشيخ السعدي، وعاد الجزائريون الذين رافقوا أبا حسون إلى فاس لبلادهم.
نظم الحكم والإدارة:
كان الحكم وراثيا في بنى وطاس، وكان السلطان يعين كبار مستشاريه من كبار الشخصيات، وكان للسلطان أمين سر مهمته الإشراف على أموال السلطان، كما كان السلطان يُعيِّن حكامًا على كل مدينة، وجعل لهم الحق في التصرف في مواردها، وتزويد جيش السلطان بالجنود من مدنهم، وتعيين وكلاء من طرفهم على القبائل التي تسكن الجبال، وجباية الأموال، وأخضع السلطان كل ذلك لسلطته، وأحكم قبضته على مقاليد الأمور، كما أخضع كل موارد الدولة لخدمة الأغراض العسكرية.
واتخذوا الوزراء من أقاربهم، واستوزر محمد الشيخ الوطاسى أخويه محمد الحلو والناصر أبا زكريا، وعين مسعود بن الناصر خلفًا لأبيه على الوزارة، وقد تنوعت اختصاصات الوزراء بين المهام السياسية والحربية إلى جانب أعمالهم الإدارية، وتنوعت الوظائف الإدارية وشملت: الباشا، والقائد، والقاضي ويساعدهم مجموعة من الموظفين، منهم: الأمين والناظر، وأمين المواريث.
الجيش في العهد الوطاسي:
لم تختلف طبقات المجتمع كثيرًا في العهد الوطاسى عما سبقه من عهود، واحتل الجيش مكانًا بارزًا، نظرًا لكثرة الحروب التي خاضها الوطاسيون، وقد انقسم هذا الجيش إلى قسمين هما: الجيش النظامي، وأفراده من الأمازيغ، ويضم: الفرسان والرماة وراشقي السهام، والمشاة، والقسم الثاني: من المتطوعة من العرب وغيرهم، وقد عرف جيش الوطاسيين نظام الحصون والحاميات.
العمارة في العهد الوطاسي:
توقف نشاط الوطاسيين العمراني على مدينة فاس، ويرجع ذلك إلى الأوضاع السياسية المضطربة التي سادت تلك الفترة، وانصراف بنى وطاس إلى المعارك والحروب، وصرف إمكاناتهم المادية في التسليح والإنفاق على الجيش، وقد أدى كل ذلك إلى توقف النشاط العمراني، وتناقص عدد الفنادق والمستشفيات، وقلة الاهتمام بالمرضى.
العلوم في العهد الوطاسي:
شهدت العلوم الدينية نشاطًا ملاحظًا، وبرز عدد كبير من العلماء في المجالات كافة، منهم: أبو عبدالله بن أبى جمعة الهبطى، صاحب كتاب: الوقف في القرآن الكريم، والمتوفى عام (930هـ / 1524م)، والفقيه محمد بن عبد الله بن عبد الواحد الفاسى، المتوفى عام (894هـ / 1489م)، وألف الونشريشي عدة كتب منها: “المعيار المغرب، والجامع المعرب عن علماء إفريقية والأندلس والمغرب”، وهو في اثني عشر جزءًا. وفى علم التاريخ برز القاضى أبو عبد الله محمد الكراسى الأندلسى، الذي ألف منظومة عن “بنى وطاس”، أسماها: “عروسة المسائل فيما لبني وطاس من فضائل”. وتقع هذه المنظومة في نحو ثلاثمائة بيت، وهي المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه المؤرخون في التأريخ لهذه الفترة، حيث لم يصل إليهم غيره. ويعد كتاب “وصف إفريقيا” للجغرافي “حسن الوزاني” من أهم الكتب وأشهرها في هذا المجال، وقد تناول فيه جغرافية إفريقية عمومًا، والمغرب الأقصى، ومملكة فاس، ومملكة مراكش، كما تناول العادات والتقاليد والحياة الاقتصادية والفكرية والدينية، والنظم الإدارية.
الخاتمة:
وهكذا نجد أن الوطاسيين الذين آل إليهم الحكم في المغرب في الربع الأخير من القرن التاسع الهجري أو العاشر الميلادي، كانت إمكانياتهم محدودة فعجزوا عن بسط سلطتهم على كامل أجزائه، وتوفير الأمن والاستقرار له، بحيث نجد أن المغرب في مطلع القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي مجزأ إلى وحدات سياسية صغيرة تحت زعامات قبلية أو دينية أو مجالس محلية مستقلة عن الوطاسيين تمامًا، أو تتبعهم اسميًا فقط مثل أسرة المنظري وبني راشد وإمارة وبدو وآل شنتوف في مراكش.
إن هذا التجزؤ الكبير الذي آل إليه المغرب وعجز الوطاسيون عن القضاء عليه قد شجع البرتغاليين والإسبان على غزو وتخريب واحتلال مدنه الساحلية.
كانت هذه باختصار ملامح الوضع المتأزم الذى كان يعيش فيه المغرب في أواخر فترة الوطاسيين، فانبرى السعديون لإنقاذ البلاد وتمكنوا من بسط نفوذهم على كل المغرب، ولم ينجح الوطاسيون في صدهم، وتسلّم حكم المغرب للسلطان السعدي، وبذلك انتهت دولة بني وطاس.