العزلة عند الفتنة.. والعبادة في المحنة رشيد مومن الإدريسي

تُدق طبول الفتن! وتُقرع أجراسها، وتَحل المحن وتَتنوع أجناسها! ومن عظيم ما ينجي من سمومها، ومن أهم ما يُثبت عند ظهورها: الإكثار من العبادة على اختلاف أنواعها.

ولذا ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “العبادة في الفتنة كهجرة إلي”1، وفي لفظ: “العبادة في الهرج كهجرة إلي”2.
و”المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا الأفراد”3.
وقد ذكر الإمام المنذري رحمه الله أن الهرج هو: “الاختلاف والفتن، وقد فُسر في بعض الأحاديث بالقتل، لأن الفتن والاختلاف من أسبابه، فأقيم المسبب مقام السبب”4.
أما “وجه تمثيله عليه الصلاة والسلام بالهجرة: أن الزمان الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتنة تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة”5.
وكما هو بين عند الأكياس، أن المراد من هذا المذكور -هنا- بلا مَسْمَاس6، شُغل النفس بالعبادة وترك الإفلاس، وإشغالها بما هو حق من الاستئناس، واعتزال ما فسد من أحوال الناس، واجتناب ما دخل عليهم من سوء الرأي والقياس، والبعد عن حال من ضيع العلم وما هو أساس، خاصة زمن الافتتان وكثرة الالتباس.
ولأجله قال الإمام أحمد رحمه الله -إمام أهل السنة والحديث-: “والإمساك في الفتنة سنة ماضية، واجب لزومها، فإن ابتليت: فقدم نفسك دون دينك. ولا تعن على فتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك -والله المعين-“7.
فليس المقصود -إذن- من هذه (العزلة الأثرية)8، ترك الدعوة إلى الخير بشرطه وضابطه، أو التنكب عن إحقاق الحق مع مراعاة ظرفه وواقعه(!)، نظرا وتأملا في حاله وعواقبه، كل ذلك بتحكيم العلم والفقه وأسسه، وبميزان الشرع والدين وقواعده9.
فالعزلة المشروعة التي حث عليها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم لا تعني “مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبيلها، ما لم يَحُلْ دونها شُغل، ولا يمنع عنها مانع عذر”10.
فهذا على وجه الاختصار هو فقه العزلة وفق ما كان عليه سلف الأمة خصوصا عند حلول الإحنة11 وفي زمن المحنة، ومنه كان إخباره عليه الصلاة والسلام بحدوث الفتنة في أحاديث كثيرة للاستعداد لها تبعا للسنة.
وفيه قال الإمام الألوسي رحمه الله: “إنما أخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بما سيقع، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه، ويستعدوا للقائه، ويقابلوه بحسن الصبر والثبات، فإن هجوم الفتن مما يزيد في الألواء، والاستعداد للكرب مما يهون الخطب”12.
وعليه فمن المهمات ضبط أمر الاختلاط بالناس والصبر على أذاهم كما ورد في الحديث13 وحالة كونه أفضل من البعد عنهم لأن الكثيرين لا يفهمون حقيقته ولا يدركون صورته(!).
فـ”اعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانا تحدث أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس14، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة، مثل أن يكون في بلد يُطالب فيها بأن ينحرف عن دينه، أو يدعو إلى بدعة، أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، وما أشبه ذلك، فهنا العزلة خير له”15.
ولذلك قرر الإمام الخطابي رحمه الله أن العزلة التي دلت عليها النصوص الشرعية بضوابطها الأثرية “تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة”16، أما عند الصوفية فمقصودة ومطلوبة لذاتها فتنبه إلى هذا ولا تكن من الغافلين.
والشاهد أنه من أهم ما يلزم الاشتغال به زمن الفتنة: العزلة عن الفضول وما يجلب الشرور، والحرص على الإكثار من العبادة طاعة للعزيز الغفور، فرارا من حلول المقت، وتحقيقا لعظيم ما يدخل في (واجب الوقت!)17، فإنه كما مرَّ من كلامه صلوات الله وسلامه عليه “العبادة في الهرج كهجرة إلي” 18، فاحذر التفلت.
فالله الله على العبادة زمن الفتنة وأيام المحنة، فما ورد ما ورد فيها من فضل إلا لأن الوقت وقت غفلة، ولما تجده النفوس عند فعل الطاعة مع إحكامها وفي إبانه من مشاق تهون عند أرباب العزائم بالاشتياق.
ومن تم اسْتُحبت “عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، لأن ذلك محبوب لله عز وجل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة. ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر”19.
فـ”النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث مغفل بن يسار: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، وخرجه الإمام أحمد ولفظه: (العبادة في الفتنة كهجرة إلي).
وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه”20.
فاحرص يا رعاك الله -زمن الفتن خاصة- على العبادة تامة فإنها من الأسباب العاصمة، مصداقا لقوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فإذا قام به العبد (أي: مقام الصبر) كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة واستحالت البلية عطية وصار المكروه محبوبا فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته فإن لله تعالى على العبد عبودية الضراء وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية فيما يحب.
وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى.. ولكن فرق عظيم بين العبودتين فمن كان عبدا لله في الحالتين قائما بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} وفي القراءة الأخرى {عباده}21 وهما سواء لأن المفرد مضاف، فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلم عباده إليه ولا يسلطه عليهم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} فلم يجعل لعدوه سلطانا على عباده المؤمنين فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل فهذا لا بد منه لأن العبد قد بلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احتزر العبد ما احتزر فلا بد له من غفلة ولا بد له من شهوة ولا بد له من غضب.
وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه و سلم من أحلم الخلق وأرجحهم عقلا وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه، فما الظن بفراشة الحلم ومن عقله في جنب عقل أبيه كتفلة في بحر؟!
ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلة على غرة وغفلة فيوقعه ويظن أنه لا يستقبل ربه عز وجل بعدها وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته وراء ذلك كله” 22.
………………………………………………
1. صحيح الجامع رقم: 3974.
2. رواه الإمام مسلم.
3. شرح الإمام النووي رحمه الله على مسلم 18/88.
4. الترغيب والترهيب 4/127.
5. قاله أبو بكر بن العربي رحمه الله في عارضة الأحوذي 9/53.
6. المسمسة: اختلاط الأمر والتباسه، والاسم: المَسْمَاس، الصحاح في اللغة 2/170.
7. طبقات الحنابلة 1/27.
8. اعلم أن “العزلة بغير عين العلم ( زلة )، وبغير زاي الزهد (علة) مرقاة المفاتيح 4/743.
9. وأحب أن أنبه -هنا- على قضية غاية في الأهمية وهي: الفرق بين (فقه الواقع) حقا وصدقا (!)، و(مجرد معرفة ما وقع) (!!)، وهذه وما يعقلها إلا العالمون.
وكل ذلك وفق رؤية صائبة، ونظرة ثاقبة، مع مراعاة -لزوما- الأصول الشرعية، والقواعد المرعية لضبط هذا الواقع فقها وعلما وحدا ومقدارا، فإن الحق في هذا الباب يُدرك على النمط الوسط دون وكس ولا شطط، وبسط ذلك ليس هذا مجاله، فإلى حينه وعند محله إن شاء الله تعالى.
10. العزلة للإمام الخطابي رحمه الله 11-12.
11. وقد قيل:”الإحن تجر المحن” المعجم الوسيط 1/8.
12. تفسير الألوسي رحمه الله 4/147.
13. قال عليه الصلاة والسلام: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” صحيح الجامع برقم: 6651.
14. قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “رُب هجر جميل خير من مخالطة مؤدية” غذاء الألباب 205.
15. شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين رحمه الله 3/509-510.
16. العزلة للخطابي رحمه الله 11.
17. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته” المدارج 1/88.
18. قال العلامة السندي رحمه الله عند هذا الحديث كما في حاشيته على سنن ابن ماجة 2/477: “أي: في أيام الفتن، وظهور العناد بين العباد”.
19. لطائف المعارف للإمام ابن رجب رحمه الله 138.
20. نفسه.
21. وهي قراءة حمزة والكسائي رحمهما الله، كما في “الكشف عن وجوه القراءات السبع”.
22. الوابل الصيب 13-14 –صحيحه-.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *