تطرقت في المقال الأول من هذه السلسلة إلى انقسام الألفاظ العلمية إلى شرعية ووضعية، ونبهت إلى ضرورة العناية بالألفاظ الشرعية لما فيها من العصمة والسلامة الدينية والأخروية. وفي المقال الثاني تطرقت إلى وجوب الحذر من أمرين خطيرين:
– الأول: تلاعب أهل الأهواء بالألفاظ الشرعية.
– الثاني: فهم كلام الله ورسوله وكلام السلف على الاصطلاحات الحادثة.
وفي هذا المقال أتطرق –إن شاء الله- إلى حكم استعمال المصطلحات الوضعية.
• الموقف الشرعي من المصطلحات الوضعية:
المصطلحات الوضعية التي تواضع عليها أهل الفنون، وأصحاب العلوم، نوعان:
* النوع الأول:ألفاظ وضعت لمعان صحيحة، ولا يترتب على استعمالها مفسدة شرعية:
وذلك مثل كثير من الاصطلاحات التي تواضع عليها أهل الفنون المختلفة، من نحو، وأصول، وفقه، وحديث… فهذه ألفاظ يجوز استعمالها، لأمرين:
أ- الأول: أن الأصل في الألفاظ غير التعبدية هو الإباحة ما لم تترتب عليها مفسدة شرعية.
ب- الثاني: أن هذه المصطلحات دعت إليها حاجة تقريب العلوم، التي يراد بها خدمة كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مطلوب مستحسن شرعا؛ إذ الوسائل لها أحكام المقاصد.
قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: ( لا ننكر أن يحدث في كل زمان أوضاع لما يحدث من المعاني التي لم تكن قبل، ولا سيما أرباب كل صناعة فإنهم يضعون لآلات صناعاتهم من الأسماء ما يحتاجون إليه في تفهيم بعضهم بعضاً عند التخاطب، ولا تتم مصلحتهم إلا بذلك، وهذا أمر عام لأهل كل صناعة مقترحة أو غير مقترحة، بل أهل كل علم من العلوم قد اصطلحوا على ألفاظ يستعملونها في علومهم تدعو حاجتهم إليها للفهم والتفهيم ) (مختصر الصواعق المرسلة ص272).
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله مبينا ضرورة الاصطلاحات في العلوم: “لأهمية المصطلحات العلمية يمكن أن يقال: إن تاريخَ العلوم تاريخُ مصطلحاتها، وأنه لا حياة لعلم بدونها، وعَلَمِيَّة الإصطلاح في العلوم كعلمية الاسم على المولود، في إيضاح المقصود، وتحديد المفهوم. وقد عُلم أن مصطلحات كل علم توجد معه، أو بعده بالضرورة، فيسعى العلماء حين وجود الشيء إلى تسميته، فتتم على أساس من العلاقة بين اللغة والاصطلاح. فالمصطلحات إذاً ضرورة علمية، ووسيلة هامة من وسائل التعليم ونقل المعلومات، وقد أصبحت لضرورتها تمثل جزء مهما في المناهج العلمية، مساعدة على حسن الأداء، ودقة الدلالة وسرعة الاستحضار، وتقريب المسافة، وتوفير المجهود، في الإلمام بالمتون. وفيها جمع أفكار المتعلمين على دلالات واضحة. وهي ملتقى للعلماء في تناقل أفكارهم ومداركهم.على أساسها يقوم التأليف والنشر. وبالجملة فالاصطلاح عملة نافقة بواسطتها يبدأ التعليم، وينتشر العلم، و تلتقي أفكار العلماء، ويخطو التأليف والتدوين، وينتفع الخلف بمجهود من سلف” (المواضعة 67-68).
ومع ذلك فإنه يشترط لقبول المصطلحات الوضعية شرطان أساسيان:
1) أن تكون معانيها غيرَ مناقضة للشريعة وأحكامها المرعية.
2) أن تكون ألفاظها غير مخالفة للغة العرب وموازينها الصرفية.
– فأما الشرط الأول فيقصد به صيانة الشريعة وحفظها من التحريف والتبديل، وكذلك حفظ الأمة من الانحراف والتضليل.
– وأما الشرط الثاني فيقصد به صيانة اللغة العربية وحفظها من كل هجين ودخيل، وحفظ الأمة من أن تتعرض خصوصياتها للمسخ والتحويل، المفضي بها إلى الذوبان في اللغات الأخرى ثم الانقراض، تماما كما حصل للغة اللاتينية، وغيرها من اللغات البائدة. وليس الحفاظ على اللغة العربية وأصالتها مقصودا لذاته، وإنما الغاية منه أن لا تنقطع الصلة بين الأمة وبين ربها ونبيها، بانقطاع صلتها بلغة القرآن والسنة، مما يفضي بها إلى انقطاع صلتها بدينها، لا سمح الله.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في بيان شروط الاصطلاح المقبول: “ويمكن تكييف ضوابط المواضعة الصناعية بأمرين هما:
– الأول: تنـزيل المواضعات على مقاييس اللغة العربية، وقواعدها لتحقيق سلامة المفردات، وصحة الدلالة، وباستقامة تأليف المركبات منها على وجه مقبول في لسان العرب ونسجها.
-الثاني: تنزيلها على مقاييس الشريعة وقواعدها حتى تثبت على قرارة اليقين منها. والله أعلم. (المواضعة ص 65-66 ).
وعلى هذا فمن الخطإ الجسيم، قبول لفظ “الديمقراطية”، لتخلف الشرطين فيه:
– أما من جهة اللغة فهو لفظ أعجمي مستورد ليس من العربية في وِرْدٍ و لا صَدَر.
– وأما من جهة الشرع فإن لفظه ومعناه مناقض لأصل توحيد الله تعالى في حكمه.
* النوع الثاني: ألفاظ تترتب عليها مفسدة شرعية:
بحيث يفضي استعمالها إلى رد حق، أو دعوة إلى باطل، أو التباس الحق بالباطل. وذلك مثل الألفاظ المجملة المشتبهة التي يستعملها المتكلمون في أبواب الاعتقاد، وبخاصة في باب الأسماء والصفات، مثل لفظ: “الجسم”، والجهة” “والحيز”، ونحوها من الألفاظ المحتملة، التي يُتوصل بها إلى تعطيل صفات الباري تبارك وتعالى.
فهذه ألفاظ ومصطلحات غير مقبولة ولا يجوز استعمالها، لأنها تكون وسيلة إلى باطل، والوسائل لها أحكام المقاصد.
• قال شيخ الإسلام رحمه الله: “…وأما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله، لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك لا نفيا ولا إثباتا، بل قول القائل: إن الله جسم، أو ليس بجسم؛ أو جوهر، أو ليس بجوهر؛ أو متحيز، أو ليس بمتحيز؛ أو في جهة، أو ليس في جهة؛ أو تقوم به الأعراض والحوادث، أو لا تقوم به؛ ونحو ذلك، كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث، لم يتكلم السلف والأئمة فيها، لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق الإثبات، بل كانوا يُنكرون على أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا النوع في حق الله تعالى نفيا وإثباتا”.
وقال رحمه الله : “…وما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا، فليس على أحد، بل ولا له: أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رد، وان اشتمل كلامه على حق وباطل، لم يقبل مطلقا، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة، والتحيز، وغير ذلك”.
ومعنى قوله: “يوقف اللفظ، ويفسر المعنى”: أن اللفظ لا يستعمل مطلقا، لا نفيا ولا إثباتا، وأما المعنى فإنه يفسر، ويفصل فيه، فيبين الصحيح منه فيقبل، ويبين الباطل منه فيرد.
وعلى هذا فإذا اعتبرنا لفظ الديمقراطية من جنس هذه الألفاظ المجملة، كما فَهِم ذلك بعض إخواننا ، فإن الواجب حينئذ هو ترك استعمال اللفظ نظرا لما فيه من الإجمال، وأما ما تتضمنه الديمقراطية من الحق فهو موجود في نظام الحكم الإسلامي وزيادة. والله تعالى أعلم.