المتتبع لمعضلة التعليم في مغربنا الحزين يتأكد أن ليس هناك إرادة سياسية لإصلاحه؛ ما دام فساد التعليم وانهياره لا يحدث لهم مشكلة بل يساعد في التسكين من خلال التجهيل؛ وإبقاء الناس في ظلمات الجهل يلومون أنفسهم أن سبب فقرهم هو أنهم لم يتفوقوا في الدراسة.
وقديما كتب القبطان “أدينو” في بدايات الاحتلال إلى حكومته الفرعونية يتساءل: هل من مصلحة فرنسا أن تنشر التعليم في ربوع المغرب بين المغاربة أم لا بد من الاقتصار على تحديده بين الفرنسيين وتكوين ما تحتاجه الإدارة الفرنسية لتدبير شؤون مستعمرتها.
وفي الحقيقة من منطلق النزعة البراغماتية التي تحكم عقول السياسيين عندنا؛ لا حاجة لأصحابنا بإصلاح التعليم؛
أولا: لأن التعليم الجيد القوي ينتج جيلا واعٍ بحقوقه متطلعا لتحقيق آماله، وهذا مزعج لمن يريد أن يَستمر الوضعُ كما هو عليه.
ثانيا: لأنهم يدرسون أبناءهم في التعليم الخصوصي الراقي؛ أو في مؤسسات البعثات الثقافية الأجنبية في المغرب؛ وبعد الباكالوريا الثروة موجودة لتغطية تكاليف الدراسة في أكبر الجامعات في أمريكا أو أوربا؛ فلماذا يفكرون بجدية في إصلاح التعليم الذي يعتبرونه كذلك مجرد قطاع يستهلك ميزانية ضخمة من الميزانية العامة وليس فيه شيء كثير يمكن نهبه من ميزانية الصفقات العمومية؟
مع هذه السياسة؛ اضطر سادتنا وكبراؤنا قبل ست سنوات من اليوم أن يعلنوا رسميا إفلاس نظام التعليم في دولتنا العتيدة! الأمر الذي يجعل خلاصات تقرير البنك الدولي حول التعليم في المغرب والصادرة بداية هذا الشهر، نوعا من تكرار المعلومة وإقرار الحقيقة ولا تفيد جديدا يذكر؛ وحتى توصياته واقتراحاته فلن تغير شيئا سوى الحث على المزيد من طلبات القروض بحثا على مزيد من سبل الاسترزاق القذرة.
مع العلم أن هذا البنك الذي تمرغ الخدود عند عتباته؛ وتعفر الجباه طلبا لمرضاته؛ كان دوما خبراؤه وما يضعونه من سياسات اقتصادية للدول المستهدفة المستدينة موضوع شكوى وتحذيرات من العديد من زعماء الدول التي حققت نموا باهرا مثل ماليزيا وتركيا؛ والتي أفادت العالم بكونها لم تجد العافية والتقدم والازدهار في التعليم والاقتصاد والتنمية البشرية، إلا عندما عصت توصيات البنك، وأهملت استشاراته وأوامره؛ ولم تنعم بالاستقلال الكامل إلا عندما فكت الارتباط به، وتخلصت من ديونه وما يستتبعها من تدخلات سافرة تشل العقل السياسي والسيادي في الدولة.
وللمفارقة فقد طلب هذا البنك “الإمبريالي” من الراحل زعيم الدراسات الاستشرافية بلا منازع العبقري المهدي المنجرة -رحمه الله- أن يشتغل معهم؛ فأجاب أنه لا يمكنه ذلك لأنه سيناقض نفسه؛ فهو يحذر الشعوب والدول من خطر البنك الدولي فلا يمكنه أن يشارك بخبرته في ما يحذر منه.
ولهذا لم يكن -رحمه الله- مقبولا في الأوساط العليا في المغرب المتخلف في الوقت الذي كان يجوب العالم ينشر بحوثه وعلومه.
لكن رغم كل ما يقال عن هذا البنك الدولي وسياساته الماكرة، فإن تقريره الأخير تضمن ما يمكن اعتباره إيجابيا وهو عبارة وحيدة وفريدة تختزل الحل لمعضلاتنا، وتبقى تفصيلاتها على المغاربة وهي قوله: “المغرب يحتاج إلى معجزة!!!”.
فهل فعلا نحتاج إلى معجزة!!؟
وما هي ملامح هذه “المعجزة”؟؟
إن “المعجزة” التي يحتاجها المغرب سيكون أول المتضررين منها حسب رأي العقلاء هو البنك الدولي نفسه.
حيث تتطلب شروطا أهمها:
أ- القطع مع سياسات وخطط وخبرات البنك الدولي وقروضه الربوية؛ والعمل على شق طريق الإصلاح والتمويل والتخطيط بعيدا عن سماسرته وضباعه؛ فالبنك الدولي مؤسسة تجارية ليس من مصلحتها أن تزدهر بلادنا، وذلك حتى تستمر حاجتنا إليها المرة تلو الأخرى، فَلَو نجح التعليم لنجح الاقتصاد ولو نجع الاقتصاد لانتفى الفقر بمعدلات مرتفعة؛ ولأصبحنا في غنى عن أمواله القذرة التي تستنزف ميزانية الدولة.
وهي على وجه الحقيقة تستنزف المواطن المسكين من خلال ما يفرض عليه من ضرائب ترديه في مستنقع القروض لدى البنوك الربوية، التي غالبا ما توجد فيها الأطراف نفسها من الدول التي تشارك في رأسمال البنك الدولي، بمعنى أنهم “يزكِفون” دم الدولة ويغرقونها بالديون؛ ثم يستخلصون ديونهم وأضعافها من الفوائد الربوية من المواطن المسكين؛ ليصبح فقره مستداما؛ بدل ما يَعِدونه من تنمية مستدامة لا تزال تَستهلِك هي الأخرى مئات عديدة من ملايين الدولارات التي استدناها من البنك نفسه، وذلك منذ عصر البصري وصديقه الملك الحسن إلى يومنا هذا.
البنك الدولي مثله مثِل بنك المغرب عندما أسسته فرنسا لبناء السدود والقناطر وشق الطرق حتى يسهل عليها تصدير الثروات إلى بلادها لبناء فرنسا ومدها بالقوة لضمان سيطرتها على مستعمراتها في البلدان الإسلامية؛ بنك المغرب آنذاك تشكل من بنوك الدول الإمبريالية وشركات اللوبيات الاقتصادية؛ وأعطى لإدارة ليوطي كل ما يحتاجه مقابل فوائد ربوية وامتيازات ضخت ثروات البلاد في جيوب دولة الاحتلال ومن يشاركها في الاستغلال والاستنزاف لخيرات مغرب كانت فيه الثروة، لكن لم تكن فيه الإرادة السياسية ولا العلم ولا التكنولوجيا.
المهم أن نعلم أن البنك الدولي اليوم يلعب دور البنوك المركزية التي كانت متفرقة في أنحاء العالم الإسلامي؛ يعطي القروض ويستحوذ على الثروات.
ولست في حاجة إلى التذكير بحكم الربا؛ فللدولة مؤسساتها العلمية؛ وحسب علمي أن الربا بالنسبة إليها حرام؛ لكن الواقع -حسب رأيها- يقتضي منها عدم الخوض في هكذا فتاوى؛ لما فيها من حرج ومشاكل.
ثم إن التعليم لا يحتاج فقط إلى قروض وتمويلات بل يحتج بشكل ملح كذلك إلى:
ب- تغيير الشخصيات النافذة المحكومة بتلك العقليات المتعفنة التي تتعاقب على الشأن العام.
شخصيات تشغل مناصب في الأحزاب تتاجر بأصوات الناس لتحصل لها ولفريقها الفاسد على مراكز في الحكومة والدواوين الوزارية والمكاتب الوطنية والصناديق العامة؛ يرشح بعضهم بعضا للمناصب السامية؛ وقليل منهم القوي الأمين؛ وأغلبهم إلا من رحم الله يحسب الوزارة وكالة تجارية ورثها عن والده.
لقد ألِف المغاربة الخطب والشعارات والوعود المبشرة بالتنمية والتقدم والعدالة الاجتماعية، كما ألفوا الإعلانات التجارية للصابون والشاي.
لكن ألفوا كذلك أن لا شيء من وراء الشعارات يتغير سوى مزيدا من استهلاك “ثرواتهم” العمومية التي لا يَرَوْن منها سوى الأرقام الصماء؛ في تصريحات حكومية حول الميزانية السنوية؛ وعند بداية السنة المالية يبدأ المواطن يسمع عن اختلاسات واختلالات، وعن تقارير جطو عن الشطط وسوء التدبير وتبديد المال العام؛ وأخبار عن الرشاوى بالملايين.
والعجيب أننا نسمع عن شقتي ياسمينا بادو وملايير البنك السياحي والعقاري وقضية خالد عليوة ومن يشبهونهم، لكن قضاياهم لا تنتهي في المحاكم مهما طال الزمن ولا تسمع لها أحكام؛ بل تتدخل الولاءات لنسمع بأن السي خالد خرج ليحضر جنازة أمه رحمها الله؛ ولم يعد إلى زنزانته؛ ولم يعد يتحدث عنها أحد؛ وكأن القضية وضعت في إحدى القبور بالروضة التي دفنت فيها الوالدة.
لكن قرار القطع مع البنك الدولي، ولا تغيير الشخصيات النافذة المحكومة بتلك العقليات المتعفنة؛ لن يتخذ إلا بمعجزة أكبر وأعظم وهي؛ ما طرأ اضطرارا بعد رياح الربيع العربي؛ فرأينا انتخابات نزيهة وحرية أوسع وانهيارا لمفهوم سيادة الوزير الأول المحنط وحكومة يحبها الشعب رغم أنها تتخذ قرارات غير شعبية؛ لكنه متأكد أنها ستعود عليه بالخير بعد أن يتم صرع العفاريت؛ وشل حركة التماسيح..
باختصار المعجزة التي تحدث عنها البنك الدولي العدو اللدود للتنمية، كانت قد بدأت في المغرب لكن بدايتها كانت اضطرارية فكانت ولادتها قيصرية لم يعش مولودها سوى خمس سنين عجاف كان المغاربة ينتظرون بعدها خمس سمان يأتي بعدهن عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
لكن للأسف جاءت بعدها خمسة أشهر عصرت أثداء البقرة فسالت دما وصديدا.
المعجزة اليوم هي ليست في نجاح التعليم لأن التعليم لا يقوم في فراغ ولا ينجح في مستنقع آسن فاسد، نجاح التعليم يحتاج إلى نجاح الاقتصاد ونجاح الاقتصاد يحتاج إلى نجاح السياسة؛ ونجاح السياسة يحتاج إلى انقلاب؛ وحتى لا يُساء فهمي أقصد انقلابا للنظام على “رجاله” الذين يخدمونه لأنهم يستفيدون من سلطته ويمنحهم القرب منه النفوذ والثروة والخيرات.
المعجزة اليوم هي أن يتم إيجاد الرجل الصالح الذي إذا ائتمن لم يخن، وإذا استحفظ لم يفرط؛ الرجل الذي يؤمن أن الولاية العامة إذا أخذ مسؤوليتها بحق أعانه الله عليها؛ وإلا فهي خزي وندامة إن لم يتولاها باستقامة وإخلاص.
المعجزة اليوم هي أن تستطيع بنيةُ النظام العُلوية التخلص من بنيات النظام السفلية المتعفنة العالقة به، والتي تستمد منها النفوذ والقوة في الإفساد والنهب؛ وتحسب نفسها محمية من كل محاسبة أو مساءلة؛ ويستبدلها بالتي هي خير؛ بالتي تخدم الدين والشعب والوطن؛ وتمتح من روافد الهوية لبناء دولة في حجم مغرب حكم ذات يوم بلادا ترامت أطرافها على قارتين وكان سيدا للبر والبحر.
وكيف ينصلح التعليم بـ:
-قروض ربوية.
-سياسات فاسدة.
-سياسيون على رأس الوزارة لا يفقهون شيئا في التعليم.
-أُطر تربوية تنتظر نهاية الحصة بلهف حتى تلتحق بالدروس الخصوصية التي تسدد من دخلها الأقساط الشهرية المترتبة عن قرض ربوي سكني.
-تلاميذ يأتون من غياهب بيوت أشبه بالمقابر، جياع أهم ما في بيوتهم تلفاز يفرغ عقولهم من أي قابلية للتعلم والتربية.
ومقررات أكبر هَمّ الدولة هو في تنحية ما بها من تفسير صحيح للفاتحة وقصص لأبطال السيرة وآيات الوعد والوعيد.
-وأطر إدارية أكبر هم الدولة في متابعتها هي إقالة الخُلّص منهم فقط لأنهم ينتمون إلى جماعة إسلامية أو تيار إسلامي.
فمن أين يأتي إصلاح في هكذا واقع؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.