الاجتهاد المركب من شبهة وهوى

قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوي 29/43-44-45: “سبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء -مع وجود الاختلاف في قول كل منهما-: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإن لم يكن مطابقا، لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر , فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا . فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط.

فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة: عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء. فإنهم” إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ” ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا. ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين.
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه. وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه.
وثم قسم آخر -وهو غالب الناس- وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة، ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات”.
فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور. وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب. وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى: فهو مسيء، وهم في ذلك على درجات حسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية.
وأكثر المتأخرين -من المنتسبين إلى فقه أو تصوف- مبتلون بذلك.
وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما: هو أصح الأقوال. وعليه يدل غالب معاملات السلف. ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا: فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه الله. فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة وإما أن يحتال. وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك. ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها. فمن المحال: أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها. وإنما هي من جنس اللعب”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *