تحرير الحرية… حامد الإدريسي

نعم سوف أكتب عن الحرية،،، فالكل يكتب عن الحرية، والكل ينادي بالحرية، والكل يقتل باسم الحرية، ولم لا أكتب عن الحرية وأنا ابن الإسلام، بينما يكتب عنها ابن اليهودية وابن النصرانية…
الطريف في أمر هذه الحرية أنها تأتي من أسفلنا يحملها شياطين الجن والإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض، فإن رفضنا منها شيئا ولو يسيرا أتت من فوقنا وانفجرت على بيوتنا، فقطعت منا الأوصال، ومزقت منا الأعضاء، وشلت منا الأطراف…
لقد حاولت مرة أن أتفكر في كل هذه القنابل التي ألقيت على العالم باسم الحرية، وأخذت الخارطة من شرق الأرض وتحديدا من فييتنام وما حولها، وأدرت الكرة الأرضية بأصبعي، وحولت هذه القنابل في مخيلتي إلى خبز وجبن، فنعم عالمي بسلام ما بعده سلام، ورأيت الطفل الصومالي الذي ظهر في إحدى الصور محنيا هزيلا وبجانبه نسر، رأيته قام يجري ورمى النسر بكل قوته، فأصابه بحجر في أم رأسه.
رأيت أشياء جميلة جدا، رأيت الطيار الأمريكي المعبس، قد ارتسمت على وجهه ابتسامة اطمئنان، وأطل من نافذة نفاثته ولوح بيده لمجموعة من الأطفال العراقيين، فبادلوه التحية بأياد مملوءة بالخبز والجبن، ثم استمروا في أكلهم…
الويل لك يا طوماهوك، فلو كنت قطيعا من الغنم وأكياسا من الرز لملأت أفغانستان عدلا وسلاما، بدل أن تثير غبارا من جبال صماء، وتبعثر خياما متناثرة، وتكلف العالم مليون دولار…
إيه أيتها الحرية… من أين أبدأ وقد جئت بعد النهاية..؟ وما ذا عساي أن أقول وليس لدي لغتهم ولا إعلامهم…؟ لكنها القصة الجميلة التي تتكرر كل حين، حيث ينتصر الحق القليل على الباطل الكثير…
وبعد أن تركت قلمي يرعى في حقول أفكاري، وألقيت له الحبل على الغارب فأخذ يمينا وشمالا، وعاث في الصفحة كما يشاء، وملأها عليك يا قارئي بما لا فائدة فيه، أجر الآن بلجامه، وأشد بزمامه، وأقدم بين يديك اعتذاري عن هذا الإطناب ثم أقول…
إن كل عاقل سيتفق معنا على أنه لا يمكن أن نطلق للحرية حريتها، ونعرفها بأنها: فعل الإنسان ما يريد.
وإن لم يتفق معنا هذا العاقل فنتكلف له جوابا من باب التنزل ونقول له: لا يمكن لأي مجتمع متمدن أن يبيح لشخص الحرية في أن يخرج عاريا دون أي لباس ويقضي حاجته أمام الناس…ثم نترك هذا المعارض مع هذا الإشكال، فهو كاف في أن يجعله يتفق معنا على أن للحرية حدودا تنتهي إليها، وإن لم يتفق معنا فنقول له إنه لا مكان لك في هذا المقال، لأنه خاص بمن لهم في المبادئ والأخلاق والعقل نصيب.
لقد ركَّب الله عز وجل في الإنسان الكثير من الرغبات والشهوات، وكان فيها مصلحته وكان فيها أيضا هلاكه، فمثلا، لا تقوم حياة الإنسان إلا بالطعام، لكنه قد يأكل ما يكون سببا في موته، وقد يأكل ما ليس له بدون حق، فليس من حرية الإنسان أن يصرف هذه الشهوة في غير ما هو ملكه، كما أنه لا يملك أن يصرفها فيما يلحقه منه مضرة، فلو فرضنا أن في ذلك الطعام مضرة مهلكة، لكان من حق كل من له صلة بهذا الشخص أن ينهاه عن هذه الأكلة التي قد تؤدي إلى قتله، وربما منعه عن أكلها ولو بالقوة.
الكلام منطقي جدا هنا، ولو قال قائل اتركوا هذا الرجل وحريته يفعل ما يشاء، لقيل له، ويحك، كيف تتركه يأكل سما يقضي على حياته، ولو تركته لكنت ملاما على عدم منعه، أو نصحه على الأقل.
إذن لا حرية مع ضرر ولا مع إضرار، لا مع ضرر يلحق بالشخص نفسه، ولا مع إضرار يلحقه هو بغيره؛ وهذا مبدأ متفق عليه بين الناس، ومخالفونا أيضا يقولون بأن الحرية لا تبيح لك الإضرار بالآخرين.
إن الفرق بيننا وبين غيرنا، أن معايير الضرر بيننا مختلفة، ومقاييس المفاسد لدينا متباينة، ومنطلقاتنا ليست واحدة، فما نعتبره ضررا ومفسدة، يعتبره غيرنا حقا مشروعا ومكتسبا أكيدا وحرية شخصية.
فظلم الناس بالربا واستغلال حاجتهم وعوزهم بالشكل الغاشم الذي يترتب على هذه المعاملة المالية، يعتبر مفسدة عظيمة في مقاييسنا، وظلم كبير حسب معاييرنا، لكنه حرية اقتصادية لدى غيرنا.
ومن حق الزوج أن تكون له صديقة، ومن حريته الشخصية أن يزني بمن يريد، ومن حفظ هذه الحرية أن يعترف له النظام بخليلته، ويقر له بأنه زان بشرف، بينما نحن نعتبر هذا إفسادا وإضرارا وظلما، ونحتاج إلى مزيد من الرقي والتحضر حتى نعترف بهذه الحرية الشخصية.
وليس للأب الحق في منع ابنته من أن تهب جسدها الجميل لمن تريد، فهو جسدها وهي التي تملكه وهي التي تختار بين الشباب من يروق لها لتمكنه من الاستمتاع بها كما يشاء، أو هم الذين يختارونها حسب ما تقتضيه قواعد اللعبة، لا يهم من منهم يختار الثاني، لكن إياه ثم إياه أن يتدخل الأب في هذه الحرية الشخصية!!!
أنا أتفق مع الغرب في ما وصل إليه، لأنه متوافق مع مبادئه، فانعدام المبادئ مبدأ في حد ذاته، وحريته التي يدعو إليها متناسبة مع طبيعة هذا الاختيار، ومتناسبة أيضا مع طبيعة الشعوب التي تعيش فيه، حيث لا روابط أسرية، ولا التزامات دينية، ولا حدود أخلاقية، إنما هي “يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ”، ولو حاولنا أن نتسلط على هذه الحرية بأن نقيدها بمبادئنا ونلزمها بأخلاقياتنا، لكنا كمن يحاول أن يكسو قطيعا من الأنعام سراويل وأقمصة، فلا هم منها ولا هي منهم، ونحن نحترم اختيارهم ونقول “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” وهذا من احترامنا للحريات، وعدم اعتدائنا على المبادئ التي يرونها متماشية مع طبائعهم وتاريخهم.
ثم نقول لهم بكل ابتسامة، إن من حقنا أيضا أن نعيش بحرية مع أخلاقياتنا، ونستر بحرية عورات بناتنا، ونمنع بحرية الحرية المتبذلة التي أتيتمونا بها، وليس من احترام الحريات الشخصية، أن ترمونا بالقنابل كي نقبل ما أنتم عليه، لأن ما أنتم عليه ونقولها بصوت خافت، لا يصلح إلا للحيوانات والبهائم، أما الإنسان فلقد تعود منذ خلقه الله، أن يستر عورته، ويحترم والديه، ويخلص لزوجته، ويكرم جاره…
إنني لم أر مثل غطرستك وجورك أيها الغرب، اجتمع ثلة من أهل العقل عندك، وتواطؤوا على ما رأوه حرية، ثم جاؤوا ليفرضوه على العالم!!!، أليس لدى العالم مفكرون غيرهم، أليس لدى العالم عقلاء سواهم؟!
إن مقاييسنا التي نقيس بها، وعقولنا التي نفكر بها، تستمد من مصدر لا تعرفه، وتستنير بنور لا تراه: “وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” وقد ملأ العالم حرية وأمانا منذ أن كنت ما زلت تتقلب في أوساخك وقملك، ثم استفقت اليوم لتقول: إليكم الحرية…
لتعلم يا غرب، وليعلم المنبهرون بك ممن حرمتهم حرية التفكير، ومارست عليهم سحرك، وغلفت عيونهم بإعلامك، وحشوت آذانهم بصوتك، وأجلبت عليهم بخيلك ورجلك… لتعلموا أننا لا يمكننا أن نتفق معكم على هذه الحرية، إلا أن نترك كتابنا، وإلا أن نلقي بتعاليمه وراء ظهورنا، عندها يا غرب، سوف ترضى عنا : “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”.
إننا ننعم بالحرية ضمن معاييرنا، وفي حدود ما أباحه الشرع لنا، بعد ما حررنا من عبودية أنفسنا وشهواتنا، ورفعنا عن درجة البهائم التي لا تحركها إلا الغرائز، ولا تقودها إلا الشهوات، وإن كان هناك تقصير أو تجاوز فإنما هو من أشخاص يوشك الدهر أن يأتي بغيرهم، أما من أراد أن يلزمنا بحريته فعليه أن يلزمنا بمعاييره، وأنى له ذلك.
أخيرا أيها الغرب، أيتها الحرية، أيها العالم، أبشر… فلقد ولدنا من جديد…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *