ربما كان من الغباء التسليم للطرح القائل بعفوية وبراءة ما تشهده الحدود الجغرافية للمسلمين مغاربها ومشارقها من ضجيج وفورة وحمأة نسائية حقوقية مدنية حداثية متحررة، يبدو أنها فقدت في ظل تمردها إن جاز التعبير حقيقة الغاية وحادت عن جادة سمو الهدف، إذ كانت ولا تزال قاعدة انطلاقها محكومة بمفاهيم خاطئة متحاملة، ونوايا مدخولة المآرب مستأجرة المقاصد، تداعت في دواخلها معالم الأنوثة خَلقا وخُلقا، وانحرفت فيها معاني التكامل والتشاكل ليحل محلها زيف المساواة والثما تل، وانتكست معها السنن الكونية، سنن الازدواجية إلى ردة التجانس وفصامه النكد، مع أنها الازدواجية التي طبعت في دائرة الخلق والإيجاد والإيلاد عالم الانسان والحيوان والنبات وأسبغت عليه نعمة الزوجية والاستخلاف في الأرض.
وربما وجد هذا التمرد أو كان سيجد مسوغه إلى حد ما مع عصور الغرب الظلامية، يوم كانت النظرة الدينية والفلسفية تطبعها على طول خط الرجعة فلسفة كفلسفة “القديس أمبروز” وهو يقول: “تلك التي لا تؤمن إنما هي امرأة ويجب أن تصنف مع جنسها الأنثوي أما تلك التي تؤمن -أي تترهب- فهي تتقدم نحو الرجولة الكاملة آنذاك تتخلى عن اسم جنسها الأنثوي، وغوايات الشباب وثرثرة العجائز”.
إنها عين الجاهلية، بله أدهى وأمر مما جاء ذكره في السياق القرآني في مقام الإخبار والإنكار، إذ قال جل جلاله مصورا ذلك المجتمع العربي الذكوري الذي هدّ الإسلام قواعد جاهليته ونسف فيه معالم الرق والنخاسة المتسفلة في نقيصة المشاعية والوأد والإباحية: “وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون”.
نعم لقد كان وضع المرأة في المجتمع الجاهلي يمثل جورا عظيما، تمالأت الأعراف والعصبيات والمصالح والشهوات على تكريسه، واعتباره وضعا طبيعيا وأصلا عشائريا مستمرء الملمح، يصب في موروث القوامة الذكورية ويغذي فيها منزع الشهامة والفتونة.
ولا شك أن أركان وأسس هذه الجاهلية العربية وقفنا على تفاصيلها مبكرا، ولكننا كجيل بل كأجيال كنا نجهل أن ثمة جاهليات كانت محيطة بالمجتمع العربي الجاهلي تجاوزت في تكريس ذلك الجور كل الأعراف والعصبيات، وأوجدت في إطار ما شهدته تركة الوحي وميراث النبوة لديها من عبث وتحريفات نصوصا نُسبت إلى العدل الرباني زورا وبهتانا، امتهنت وازدرت بها جنس الأنثى، بل وألصقت بوجودها جمهرة من المساوئ وجملة من العيوب والشرور، وألبسته ثوب الحقارة والهوان والأذى.
وربما اكتفينا في هذا الدرك على كثرة صوره بما جاء في “سفر الخروج” من تصوير لفترة الحيض عند المرأة في الموروث الديني اليهودي المحرف: “وإذا كانت امرأة لها سيل وكان سيلها دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسا… وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء…”.
ولن نبالغ في الفهم إذا ما أقررنا في يقين أن هذه الجاهليات وفي إطار ركونها إلى المفاهيم الذكورية، وتكريسها للحيف القائم المشبع بغرائز البهيمية كانت تحصر خلاص المرأة، وإمكانية استعادتها لتوازنها الاجتماعي ومكانتها الإنسانية في مطلب طرحها وانسلاخها عن أنوثتها لتصير ذكرا، أي بالمفهوم السائد في أدبيات القوم يومها “الإنسان الكامل الراشد”، وما يلزم من هذا الكمال والرشد من زوال خلفة ونهاية إيلاد وإيجاد، ولعله لازم مباشر وطبيعي لهذا الإقحام النكد للمرأة في عوالم الرهبنة والتبتل الزائف.
ولن نبالغ أيضا إذا ما أقررنا في يقين أن ما عاشته المرأة في ظل سلطة وسطوة آباء الكنيسة من تحقير وإهانة، كان أظلم وأعظم فرية وجرما من ذلك الاستقبال بالوجه الأسود المكفهر والنفس الكظيمة لبشرى ميلاد البنت في المجتمع العربي الجاهلي القديم.
ولنرجع لنقف على ذلك الرمي بالغباء والهبل للتسليم المرتبط وصفه بالقول بعفوية وبراءة الركز النسائي ذي الضجيج الحقوقي المعربد هنا وهناك وهنالك، مستفهمين مع هذا الرجوع في حسن قصد وسلامة طوية عن السر الكامن وراء إلحاح النساء على رفع شارة المظلومية، وتأبيدهن الوقوف موقف المغلوبية، ولباسهن لثوب الشكوى والاستنكار والتمرد في جحود ضد كل شيء، في مقابل ما يُرى عليهن من حقيقة أنهن حصلن على كل شيء، وولجن كاسيات عاريات أي شيء، ولبسن كل شيء، وامتهن أي شيء، وخرجن في غير وقر في صوب كل شيء، وأنكرن كل شيء من صفات أنوثتهن، وخاصمن في جفاء وجفوة معاني الأمومة المركوزة في دواخلهن…
إن على المرأة الثائرة المتمردة باسم الحقوق المدنية أن تكون لها الجرعة الوافية من الشجاعة والتجرد والإنصاف الصادق، لتعطينا أو لتجرد لنا نسب البطالة في صفها مقابل البطالة في صف من تريد أن تماثله في كل شيء، وأن تجود علينا بالأرقام الصحيحة الصريحة لأضراب وأنواع وأصناف المراقي الوظيفية القضائية والتشريعية والتنفيذية التي لامس ردفها في صمت وجحود جلد كراسيها بامتياز التوظيف المباشر أو المشاركة بنظام “الكوطة” الإلزامي.
وقد لا يكون المقصود من الاسترسال مع هذه المعطوفات حصول إجابة من المرأة أو من ينوب عنها أو من يخوض إلى صفها وجنبها هذه الحرب إن سلم الوصف، ذلك أنه لم يعد خافيا على أحد كمّ ولا حجم ولا كيف ما راكمه الركز النسائي من غنائم في هذا الباب، يكفي للتوقيع عليها بطابع التسليم الوقوف أمام أي إدارة أو وزارة أو وكالة أو مصنع أو سوق عصري أو طريق أو ثكنة في ساعة الخروج، وإجالة النظر وإرساله في طابور الموظفات والعاملات في هذه الإدارة أو تلك، وفي هذه الوزارة أو تلك، وفي هذا المصنع أو ذلك، أو في هذا الصندوق أو ذلك، ثم إرجاعه قياسا مع الثلة القليلة من الموظفين الرجال.
كما عليها أن تعطينا في صدق وأمانة حجم وأرقام طابور العنوسة الضارب في عمق صفها، في مقابل جودها بالأرقام الحقيقية لنسبة التعدد في المجتمعات العربية الإسلامية، كما عليها أن تدلي بدلو البوح بنسب الطلاق والانفكاك الأسري في صفوف الأسرة العربية المسلمة منذ وقوع اعتساف مراجعاتها المترادفة لمدونة الأحوال الشخصية والتي عرفت بعد تحوير المضمون باسم مدونة الأسرة.
كما عليها أن تصرح بعدد ورقم المغتصبات، بله المغتصبين من الصغار والصغيرات في مقابل المتزوجات من الصغيرات أو اللائي لم يحضن بتعبير القرآن الكريم.
كما عليها أن تبرر أسباب غيابها وغياب دفاعها في الملف الظالم ملف “النساء السلاليات” والذي تحكمه أعراف بائدة ونعرات ذكورية وعصبيات أبوية تجاوزها الإسلام بادئ ذي بدئه، في مقابل ما نراه ونسمعه من ضجيج وعربدة تناهض أحكام المعلوم من الدين بالضرورة، وتتهم الأنصبة والفروض الربانية في مقام الإرث بغير العدل ولا السوية تعالى عدل ربنا عن ذلك علوا كبيرا، كما عليها أن تبرر سلامة علاقة كياناتها المدنية بالغرب وارتباطها في تمويل ومتبوعية من بعض ولبعض منظماته المعادية لأمننا الروحي واستقرار أوطاننا الإسلامية، واستصراخها واستنصارها ببنود بعض الاتفاقيات الدولية، واعتقادها السمو والتفوق فيها ولو على حساب خصوصية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء…
ويبقى السؤال الذي يتشاكل على فرضه الواقع والحاجة هو ذلك السؤال الذي يبحث في ماهية هذه المطالب النسائية المرفوعة كل وقت وحين، من جهة هل هي فعلا عين المطالب التي تتوق إلى حصولها وتحصلها نسوة مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟
أم أن واقع وحقيقة هذه المطالب تظل منعدمة لا أثر لها في قائمة الحاجيات التي تعاني منها المرأة في الحضر والبوادي والجبال الوعرة، والغابات والمناطق النائية التي يفتقر فيها المواطن إلى أبسط الحقوق، وأساسيات العيش الكريم من أكل وشرب وسكن وغطاء يناسب ويحمي من تقلبات المناخ المردية، وتطبيب وتوليد يحفظ الكرامة الإنسانية للمرأة موضوع النضال كما هو الزعم القائم.
وهل غاب عن مناضلات المجتمع المدني أن ثمة مناطق في الوطن العربي تضطر فيه المرأة لبيع العرض بثمن بخس مقابل أمنية حصولها على ضغث حطب يدرأ عنها عذاب القر ويحفظها من عدوانية البرد القارس؟
وهل خلت بيوت مناضلات المجتمع المدني الفاخرة من خادمات محرومات من أبسط الحقوق وأقل الامتيازات البشرية، ينبن عنهن في شقاوة الغسيل وضنك التنظيف والطبخ وتربية الرضع ومطالب الأولاد والأزواج، هذا إن كان لهن ولد أو كان لهن زوج، فإن راجح الاحتمال أن أغلبهن يورثن كلالة، أو يعشن حينا من الدهر طويل عانسات متبتلات في غير تبتل أومسافحات أو متخذات أخدان.
وهل غاب عنها صورة المرأة وهي محشورة عارية وراء الواجهات الزجاجية معروضة للسفاح في أطول شوارع العواصم الأوربية وأعرقها؟
وهل من الحقوق في شيء أن تطالب نساء المجتمع الحداثي بوضع صور نسائنا في المجلات المخصصة لاستقطاب السياح إلى جانب ما تزخر به أوطاننا من معالم تاريخية وواجهات بحرية وأنهار جارية وغابات خضراء مورقة؟
وهل من الأخلاق في شيء أن توضع صورة المرأة على مغلف وكبسولة وزجاجة كل بضاعة مجهزة للتسويق ولو بثمن زهيد؟
وهل من الحداثة والحرية في شيء أن تتسفل المثقفات المائلات المميلات الكاسيات العاريات دركات العلب الليلية يمارسن الوأد ويشيعن الفضيلة إلى جبانة الاسترجاع والتأبين الذي مفاده قول نبينا بالقياس والإسقاط “اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم”
وأين هذا من شريعة حمت المرأة من إرداف النظرة إلى النظرة، وأخرجتها من رق التبضيع وفلسفة العرض والطلب إلى نعيم التحرر الذي أشارت إليه مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم بقولها تعجبا: “أو تزني الحرة يا رسول الله؟؟؟”.
وشكت منه ولم تصبر على النوء بلممه السوداء المبشرة بالجنة لمم التكشف أمام المحارم مقابل صبرها على نوبات الصرع.
فشتان شتان بين عيش حياة طيبة يباركها الرب جل جلاله، وتستغفر لأصحابها الملائكة، ويترضى عنهم الصالحون، ويضبطها العفاف ويزيد من طيبها الحياء، وبين حياة متسفلة في نقيصة كل مقذور تحفها اللعائن، وتتهاوى بها الأهواء إلى الحضيض، ويستحيي من وأدها الحداثي الوأد القديم، وتتغشاها الظلمات، وتسودها الأوجاع التي لم تكن معروفة في أسلافنا…نسأل الله العفو والمعافاة.