التنبيه على مهمات تخص قول الفقيه “مذهب العامي مذهب مفتيه” رشيد مومن الإدريسي

الواجب على المسلم العامي1 الذي لا يحسن النظر في الدليل أن يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى (الْبَيِّنَاتِ): “أي: بالحجج والدلائل”2.
وعليه فلا يجوز للعامي أن يسأل في أمر الدين والشرع من يظنه غير عالم ولا مؤهل، فضلا على أن يكون مجهول الحال ونحو ذلك، لاحتمال انتفاء صفة العلم والاجتهاد فيه، إذ الأصل في الإنسان عدم العلم لقوله تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً).
ولذا قرر العلماء أن “مذهب العامي مذهب مفتيه”.
قال الشوكاني رحمه الله: “وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فالإجماع على ذلك”3.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: العوام على مذهب علمائهم”4.
فـ”العامي إنما يتبع قول مفتيه..”5.
ومما ينبغي الانتباه إليه في ذلك، أن المسلم إذا سأل من يثق في علمه ودينه، يجب عليه أن يتبع قوله في فتياه التي استفتاه فيها، ولا يجعل دينه عرضة للهوى والشهوة خاصة زمن الفتن والمحن، فيسأل أكثر من عالم، أو يتتبع قول أكثر من عالم طلبا لما يهواه ويشتهيه6.
وليعلم أن ضابط اعتماد العامي فتوى مفتيه أن تطمئن نفسه وينشرح صدره لفتوى من قصده لذلك، وإلا في حالة ما إذا حاك في صدره شيء من الفتوى فله أن يسأل غيره وجوبا حتى يحصل له الاطمئنان والانشراح.
ومن الأدلة على ذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا حيث سئل العالم بعد ما دل عليه في المرة الثانية عند ما حاك في صدره كلام الراهب في المرة الأولى.
قال ابن القيم رحمه الله: “لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه”7.
وقال الشيح محمد علي بن آدم بن موسى الإثيوبي حفظه الله ناظما في معرض الكلام عن آداب المستفتي:
ثالثها إن نفسه لم تطمئن **** سأل غيره إلى أن يطمئن
وحاصل المعنى أنه لا يجوز للمستفتي العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه إليها، وكان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه به، ولم تخلصه فتوى المفتي من الله تعالى: كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها”.
فعلى المستفتي أن يسأل ثانيا وربما ثالثا حتى تحصل له الطمأنينة إذا عرض ما يخدش في الثقة في الأول في خصوص ذلك، كأن يعلم المستفتي جهل المفتي ومحاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها.
وفي هذا الباب دسيسة ينبغي التفطن لها قد نبه عليها العلماء رحمهم الله.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “قال خاتمة المحققين ابن حجر الهيثمي في شرحه على الأربعين النووية.. ما نصه: وها هنا دسيسة ينبغي التفطن لها وهي أن المجتهد بحق قد يرى رأيا مرجوحا، فهو وإن أثيب عليه قد لا يكون المنتصر لقوله كذلك وهو ما إذا قصد بانتصاره له أنه من أقوال متبوعه، ولو كان من أقوال غيره لم ينتصر له، لأن انتصاره حينئذ مشوب بإرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأن لا ينسب إلى الخطأ، وهذا كله قادح في قصد الانتصار للحق، فافهم ذلك فإنه مهم ويخفى على كثيرين”8.
إذن فقول العلماء “مذهب العامي مذهب مفتيه” ليس على إطلاقها، كما هو شائع عند كثير من الناس، مما يجعل اعتمادهم على بعض الفتاوي خاصة في هذه الأيام مبناها على التشهي واتباع الهوى والله المستعان.
وعليه “يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده، فإن قال: عرفته بالدليل فليس بمقلد، وإن قال: عرفته تقليدا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه، ودينه، وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق، قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ، فإن قال بعصمته أبطل، وإن جوز عليه الخطأ قيل له فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره، فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور، قيل أجل هو مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر؛ بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذا مأزور، فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا، قيل له: المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا”9.
………………
1. سمي العامي بهذا الاسم: قيل من العمى، لأنه بيد من يقوده، وقيل: من العموم.
2. تفسير ابن كثير رحمه الله 2/570.
3. إرشاد الفحول560.
4. لقاءات الباب المفتوح 3/79.
5. انظر ما لا يسع المسلم جهله من ضروريات التفكر 33 للعلامة المعلمي اليماني رحمه الله.
6. انظر الموافقات 4/133، وإرشاد الفحول 271.
7. إعلام الموقعين 4/254.
8. الصوارم والأسنة 260-261، والكلام نفسه ذكره ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم.
9. إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله 2/232.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *