اعرف كتابك -6- د. يوسف مازي*

قال السلف: «ليس دون الأرواح إلا الأشباح». من هذا المنطلق يمكن أن نقرر أن الإنسان الذي لا يعرف ربه هو أجهل خلق الله بنفسه، لأن الكاشف عن الأنفس وعن حقيقتها وعن خباياها؛ وما تاه فيه غير المسلمين في الماضي، وللأسف بعض المسلمين اليوم، هو هذا الكتاب الكاشف لكل هذه الخبايا، إنه القرآن الكريم.
قال الله عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك)، وقال سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} (الأنعام)، وعدم التفريط في الكتاب هنا إنما جاء في سياق الخلق والتكوين وليس فقط التشريع كما يفهمه البعض؛ فالله سبحانه وتعالى أنزل رسالة القرآن إلى الإنسان لتعريفه بنفسه من أجل أن يسير إلى الله، إذ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله، قال جل في علاه في أول ما أنزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق).
كما أن أول نعمة امتن الله بها على الإنسان بعد نعمة الخلق البيان، فبعد أن ذكره بأصله علمه البيان، قال تعالى: {الرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} (الرحمن).
فالقرآن الكريم كلام الله على الحقيقة ليس بمخلوق، أنزله الحكيم سبحانه وتعالى ليرتفع به الإنسان ويعرج به عبر معارج الكون والنفس العليا إلى آفاق الكون، فيشاهد من جلال الملكوت ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد، وليتعرف على أغوار النفس وخبايا الذات والفؤاد… ليجيب نفسه عن الأسئلة التي حيرت الغرب! بكلام الرب المحيط علمه بكل شيء:
من أنت؟ ما هي هذه النفس الكامنة بين أضلعنا؟ إلى أين أسير؟ من أين أنطلق؟ كيف أسعى…؟
لكن وللأسف مرة أخرى كما قال الحق سبحانه وتعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} (يس)، فإن كثيرا منا إما أن يتبع سنن غيرنا حذو القذة بالقذة، لسان حاله يقول بقول الشاعر الجاهلي المعاصر:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
بحث مجنون! وسفول ودمار! عبثية وفوضى…! تنتهي في الأخير بهمجية بهيمية! سمات أهل هذا المنهج في البحث عن الحقيقة، وإما أن يعمل على إجهاض السؤال في عالم الخواطر دون تقليب لصفحات الوحي الناطقة بالحقيقة.
إن القرآن الكريم؛ الكتاب الكوني العظيم، الرباني المصدر، قد عني بقضية معرفة النفس والتعرف عليها، بل جعلها أول مدارج التعرف إلى الله؛ فهل أيقن المسلمون اليوم أن رسالة الله إليهم وصلت؟ فإياك أن تظن نفسك غير معني بها!
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} (سبأ)، {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69)} (المؤمنون)، {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} (الشعراء).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-* باحث في العلوم الشرعية، خطيب مسجد الزيتون – بني ملال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *