كنتُ وأنا في بداية الشّباب وغضارته ونهاية الصّبا وغروب شمسه مُولَعًا بكتبِ الكاتب اللّبناني الشّهير جُبْران خليل جُبْران، أقرأ مؤلّفاتِه وأعيدها، وأردّدُ كلماتِه وأحفظها، ولا أُرى إلاّ متأبّطًا بعضًا من كتبه رائحاً وجائيًا..لكن في قرارة نفسي كنت أقفُ حائرًا متسائلاً عن كثير من عباراته التي لا تستسيغها فِطرتي، ولا يدركُ أبعادها عقلي المحدود، وأجدها ثقيلة على فهمي وسمعي وحواسّي..لكن حبّي العنيف له كان يدفعني لحسن الظّنّ به وغضّ الطّرف عن هناته وهفواته..بل كنت أتّهم نفسي كثيرًا أنّني سيء الفهم ولم أرقَ بعدُ لمستوى كتاباته وإدراك معانيها..
لكن حينَ قرأتُ له قصّةً عنوانها (وردة الهاني) في كتابه (الأرواح المُتمرّدة) التي تقعُ في عشرين صفحة أنكرتُ مضمونها إنكارًا، وغضبتُ وانزعجت انزعاجًا شديدا، وشعرتُ بقلبي يضيقُ وعقلي لا يستحمل هذا الهُراء الذي ابتلعتُه.. ومع بالغ الأسف لم تكن عندي الأدوات التي يمكنني أنْ أردّ عليه بها..ففاقدُ الشّيء لا يعطيه كما يقال..فقط اكتفيتُ باعتزال كتبه، والإعراض عنها إعراضي عن مواطن الشُّبه والفساد..وقلْبِ ظَهْرِ المِجَنّ لكلّ ما له علاقة به..ثمّ وقعَ في خلَدي أن أعود إلى الأديب الأريب مصطفى لُطفي المنفلوطي -رحمه الله- الذي كنّا درسنا بعضَ نصوصه النّثرية الجميلة في المستوى الابتدائي والإعدادي
..اشتريت كلّ كتبه من سوق الكتب المستعملة بثمن بخس لا يكلّفني شيئا، وعكفتُ على قراءته كتابًا كتابًا، فوجدتني أمام رجل بليغ مِنْطِيقٍ مُسلم، يحبّ الخيرَ للنّاس وينشد الإصلاح وتقويم ما فسد من أخلاق المجتمع المصري خاصّة، والعربي عامّة..فانتشيتُ وطربتُ وسعِدتُ واكتشفتُ أنّني كنت في ظلام دامس قبل القراءة لهذا الفاضل.. وقد ذكرتُ في كتابي (أفكار على ضِفاف الانكسار) أنّه كان من الأسباب التي حبّبت إليّ الأدبَ الجميلَ ودفعتني إلى خوض غماره بحبّ وشغف..لذلك لا حاجة بي أن أسهب في هذا الأمر أكثر في هذه الورقات..
مرّتِ الأيام وكرّتِ اللّيالي وأنا أعيش متنقّلا بفرح بين أوراقه وقصصه ومقالاته لأشبع جوعي إلى المعرفة، وأشفي غليل عطشي إلى الأدب..وبينا أنا كذلك ذاتَ يومٌ أو إن شِئتَ فقل ذات ليلة لأنّني لم أكن أقرأ إلاّ ليلا في هدوء وصمت..وخفاء عن الأعين والنّاس أجمعين..إذ وجدتُ مقالةً نقدية طارَ لها قلبي فرحًا، وانشرح لها صدري انشراحًا، وكدتُ أنسلخُ من جلدي غِبطةً وسرورا..وجدت هذا العظيم المنفلوطي في جزئه الأوّل من كتابه (النّظرات) يُفنّد تلك القصّة (وردة الهاني ) لجُبران خليل جُبران، ويعنّف صاحبها عنفًا يسيرًا، مبيّنا خطر هذه الأفكار الإباحية التي يُروّجُ لها بين أبناء المسلمين وفي قعر دارهم، يبدؤها بقوله:
قرأتُ في بعض المجلاّت قصًّة قصَّها أحدُ الكتّاب، موضوعها أنَّ كاتبها غاب عن بلده بِضْعةَ أعوام، ثمَّ عاد إليها بعد ذلك، فزار صديقاً له من أثرياء الرّجال ووجُوهِهِم ومن ذوي الأخلاق الكريمة والأنفس العالية، فوجده حزينًا كئيبًا على غير ما يَعهد من حاله قبل اليوم، فاستفهم منه عن دخيلة أمره، فعرف أنَّه كان متزوجاً من فتاة يحبّها ويجلّها ويفديها بنفسه وماله فلم تحفظ صنيعَه ولم ترعَ عهدَه، وأنّها فرَّتْ منه إلى عشيق لها رقيق الحال وضِيع النّسب، فاجتهد الكاتبُ أن يلقى تلك الفتاة ليعرفَ منها سِرَّ فرارها من بيت زوجها، فلقيها في منزل عشيقها، فاعتذرت إليه عن فعلتها بأنها لا تحب زوجها؛ لأنه في الأربعين من عمره وهي لم تبلغ العشرين، وقالت: إنّها جرت في ذلك على حكم الشرائع الطبيعية وإن خالفت الشرائع الدينية؛ لأنَّ الأولى عادلة، والثانية ظالمة.
وقالت: إنَّ ما يسميه الناس بالزّنا والخيانة هو في الحقيقة طهارة وأمانة، ولا الجريمة ولا الغشّ ولا الخِداع إلا أن تأذنَ المرأة لزوجها الذي تكرهه بالإلمام بها إلمام الأزواج بنسائهم ما دامت لا تحبُّه ولا تألف عشرته، وقالت: لو أدرك النّاس أسرارَ الدّيانات وأغراضها لعرفوا أنَّها متّفقة في هذه المسألة مع الشرائع الطبيعية، وأنَّها ربّما تعدُّ المرأة في بيت زوجها زانية، وفي بيت عشيقها طاهرة، إذا كانت تكره الأول.
هذا ملخص القصة على طولها، وأحسبها قصّةً موضوعةً على نحو ما يضع الكتّابُ القصصَ الخيالية لنشر رأي من الآراء أو تأييد مذهب من المذاهب؛ لأنَّ الكاتب قد أعذر تلك الفتاة فيما فعلتْ، واقتنع بصحّة أقوالها وصحّة مذهبها، وأعداها على زوجها، وقضى لها فيما كان بينهما.
وسواء أكانت القصة حقيقية أم خيالية، فالحقّ أقول: إنَّ الكاتب أخطأ في وضعها، وما كنت أحسب إلا أنَّ مذهب الإباحية قد قضى وانقضى بانقضاء العصور المظلمة، حتى قرأت هذه القصة منشورة باللغة العربية بين أبناء الأمة العربية، فنالني من الهم والحزن ما الله عالم به.(1)
قال ربيع: بهذه النّص الرّزين تفتّحت عيناي، ورُفعت عنّي الغشاوة تجاه جُبران خليل جُبران الذي كنتُ أظنّه أروعَ أديب وأجمل َكاتب وأكبرَ مبدعٍ جادَ به القرنُ العشرون… لكنْ بعد قراءة هذه المقالة وتقدّمي في السّن والفَهم صارَ حالي يقول: الأدبُ لا يدعو إلى الفاحشة يا جُبران، ولا يجرّ إلى معصية، بل يدعو إلى مكارم الأخلاق، فتطمئنّ إليه النّفوس، وترتاح إليه الأفئدة..وليسَ سلاحًا يفرّق جماعات النّاس، وروابطهم الأسرية، ويسفّه إنسانية الإنسان ويجعل منه حيوانًا يَمشي على الأرض بلا قيود وكأنّه خُلِقَ عبثًا لا يُؤمرُ ولا يُنهى..كلاّ بل الأدب هو التّعبير عن الحياة أو بعضها بعبارة جميلة، ودعوة إلى تصفية النّفس وتزكيتها والسّموّ بها إلى مقام تُحمدُ عقباه دنيا وآخرة..فالأدبُ باختصار كما يقول زكي مبارك: شريعةٌ ربّانية لا يصلحُ لها غير المصطفين من أرباب القلوب..الأدب الحقّ منحة ربّانية يجودُ بها اللهُ على أرباب القلوب الصّادقة..
ثمّ تعمّقتُ أكثر فأكثر في التّعرّف إلى جبران وما قال عنه النّقاد لأنّني كنت من صِغَري لا أرضى من الغنيمة بالإيّاب، فوجدتُ المفكّرَ الأديبَ أنور الجندي يقول عنه بصريح العبارة دونَ أن يخفيَ اسمه -كما فعل المنفلوطي الّذي اتّبع قاعدة (ما بالُ أقوام)، وهي لا تجوز في حقّ جُبران هذا الذي ملأ الدّنيا وشغل النّاس بأدبه الإلحادي المسموم-:
لقد حاولَ جُبران كما حاولتْ مدرسة الْمَهْجَريين إحياءَ الفينيقية الوثنية، ومهاجمة قِيَم العُروبة والإسلام، فأعادتْ وأحيتْ كلَّ ما رددته فلسفات زرادشت والمجوسية ووثنية اليونان والرّومان، هربًا وراء فرويد ونيتشه وغيرِهما، وكان هذا كلّه مصاغًا في إطار التّوراة وأسلوبها.
ويقول: الواقع أنّ الأدبَ المهجري قد اعتمد على مصدر أساسي، هو الحملة العنيفة على الدّين واللغة، ومقومات المجتمع العربي الإسلامي، والثورة على كل القيم والعقائد والإفراط في الإباحية ومهاجمة القيم الأخلاقية في الحب والزواج من إدخال أسلوب جديد مستغرب يصادم الحس الإسلامي ويعارض مفاهيم البلاغة، ويعلي من صيغة التوراة والمجاز الغربي(2).
أمّا النّاقدُ الكبير عبد اللّطيف شراره فإنّني وجدته يقول: وثمّة مفكّر ألماني: فريدريخ نيتشه المتوفى سنة 1900م/أُصْعِقَ جُبرانُ حين اطّلعَ على آرائه واتّجاهاته الأخلاقية، فأخذ يدور في فلَكِه الفِكري، ويدعو غيرَه إلى اتّباعه..إلى أن يقول بعد أن ذكر ثلاثة أساتذة غربيين تتملْذ لهم:
بَيْدَ أنَّ جُبران ظلَّ في أصوله واتّجاهاته العامّة، شرقيًا، عربيا، إنسانيّا، رغم جُنوحه للتّطرف، إذ كان يقول: (أنا مُتطرّفٌ لأنَّ من يعتِدلُ في إظهار الحقّ يُبيّن نصفَه ويبقى نصفه الآخر محجوبًا وراء خوفه من ظنون النّاس وتقوّلاتهم).
ويقول: كان مغرِقًا في الخيال، مغاليًا في التّمرد، شديدًا في مناوأة التقليد وّالمُقلدين، حريصًا على الظهور بمظهر الحكيم الزاهد الذي يأخذ باللباب وينبذ القشور، فلا يهتم بالبيان المتأنق، أو بقواعد اللغة التي وضعها سيبويه، وغيره من النحاة، فالشاعر في نظره (ذلك المتعبّد الذي يدخل هيكل نفسه، فيجثو باكيًا، فرحًا، نادبًا، مُهلّلًا، مُصغيًا، مُناجيًا، ثُم يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء وأفعال وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدد في كلّ يوم..).
ومن الجلي أن هذا المزيج العجيب مما يصعب فهمه على الناس، ولا سيما حين يدعو إلى التّجديد، ويتراءى بهذا الزّي الذي لا يألفه أحد.
وكان عباس محمود العقّاد قد عرض في فصلٍ نقدي لشعر جُبران، حتّى إذا وصل إلى قوله:
هل تحمّمت بعطرٍ …. وتنشّفت بنور
أشار إلى أن (تحمّم) خطأ لغوي، والصواب (استحمّ)..
وسرت على الأثر (شائعة) لم يكن في الإمكان تدارك سريانها، وخلاصتها أن جُبران لا يأبه باللغة ولا يحترم قواعدها.
ثم زاد في انتشار هذه الإشاعة، مقالة كتبها أمين نخلة -أديب العرب- أجاب فيها عن سؤال طرحه عليه (قارئ كويتي) حول رأيه في جُبران، حيثُ قال: (إنَّ رأيي في جبران لا يرضي خاطرك ولا خاطر المتأدبين الناشئين) وتابع: وبحسبك منّي الآن أن أذكر لك أن الرّجل في الجملة كاتب لطيف التفكير، لطيف الخيال، لطيف الحاشية، إلا أنه لا يمت إلى بيان العرب وقواعد لسانهم بسببٍ متين. (3)
يقول حنّا الفاخوري وهو مسيحي حتّى لا يتّهمنا أحد أنّنا لا ننقل إلاّ عن الكتّاب والنّقاد المسلمين: وهكذا ترى جُبران في كتبه (الأجنحة المتكسّرة) و(الأرواح المتمرّدة) و(المواكب) و(العواصف) يحمِلُ معوَلَ الهدم في ثورة انفعالية شديدة.
قال ربيع: لذلك نجده يقول في كتابه العواصف: أنا مُتطرّفٌ حتّى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كُره لما يُقدّسه النّاس، وحبّ لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما تردّدت دقيقة.(4)
وقال حنّا الفاخوري في موضع آخر:
رأى جبران في المجتمع عيوبًا، ورأى خُرافات كثيرة تعمي بصائرَ كثير من الناس، ورأى في الشعب تقاليد ضيقة ولم يرقه استئثار الكثيرين من أغنياء الأرض بالخيرات، واتخاذ الكثيرين من رؤسائها وأربابها السّلطة والزّعامة ذريعة للظّلم والاستبداد. وكان رجلًا شهوانيًا وكان، على حدّ قول الأستاذ مارون عبود، (الحبّ الإنساني المادي أنشودة جبران… وحب اللحم والعظم هو القطب الجُبراني وعليه تدور رحاه الطاحنة…).
فاصطدمت شهوته ونزعاته المادية بالسلطة وبالآداب العامة، فثار فيه ثائر السَّخَط وأراد التّحرر، وامتزج حبّه لذاته بحبه لبلاده التي أراد لها الحُريّة، ورأى حريتها من خلال ثورته وثورة شهواته. وهكذا كانت الأثرة والشّهوة أساسَ اجتماعيات جُبران، ولهذا امتزجت آراؤه الصائبة بأضاليل كثيرة ولم يلزم حد الرصانة في أقواله، ولم ينحُ مُنحنى التعمق العلمي الهادئ؛ وقد صبغ أقواله بأصباغ زاهية من صنع الخيال والعاطفة، فاستمال بهذه الألوان البراقة القلوب الضعيفة وغذى أميالها.
لقد أنكر جبران جميع الدّيانات، وإن كتبَ أحيانا عن المسيح صفحات رائعة. ويسوع جبران يختلف تمامًا عن يسوع الإنجيل؛ فمسيح جبران هو رجل كسائر الرّجال، هو شاعر على مثال جبران، رجل عاطفة وأحلام، لا فرق عنده بين الخير والشّر والكفر والإيمان؛ وكانت آلهته كثيرة إلا أنّه لم يجعل بينها لله الحقيقي محلًا، بل كان هو ربّ نفسه فقال. (أنا ربّ نفسي) فعبد ذاته وأهواءَه وتعبّد لحُب المرأة. أمّا الحياة الأخرى فقد قال فيها أقوالًا غامضة مُتناقضة، واتبع مذهب التّقمص. وهو مع كل ذلك يظهر أحيانا ديّنًا ويرسل الأقوال الصوفية، (وما إغراقه في الصوفية -على ما قال الأستاذ مارون عبود- إلا رجاء الخلود في حضن المادة والتنقل من حال إلى حال ليظلّ يتمتع بمباهج الحياة وملذّاتها.
وفي سنة 1931م قضى عليه داء السّل بعد حياة مليئة بالكفر والإلحاد واندفاع وراء الشّهوات الجسدية. وقد قال مُخاطبًا نفسه: (لقد نحرت حُبك على مذبح شهوتك يا جُبران! أنت مُصاب بداء الكلام يا جُبران. ولأنّك تخجل من كلّ ما فيك من ضَعف بشري تعكف عليه فتستره بحلّه الكلام الجميل والألوان البهجة. والكلام الجميل لا يرفع الشّناعة إلى مستوى الجمال. والألوان البهجة لا تصبغ الضعف قوة. وقولك إن الحبّ هو الله لا يجعل الشّهوة الجسدية إلها ولا اللذة الحيوانية ناموس الحياة.(5)
قال ربيع: هذا هو جُبران باختصار الذي كنت أعيش في أحضان كتبه بإعجاب وحبّ..هذا الذي كان عقلي الصّغير يقف حائرًا أمام عباراته الكفرية والإلحادية والشّركية كتمثال لا يجد لسانًا يعبّر به عمّا يضطرب في دواخله إزّاء هذا الضّياع..هذا الذي أنفقت عليه أيامًا من عمر صبوتي التي ما أخالها إلا ضاعت في بِركة أفكاره المُتّسخة سَبَهْلَلاً..وإنّي أحمدُ الله الذي أنقذني وأحسنَ إليّ الإحسان كلّه ولم يتركني فريسة لأدبه الإلحادي أسبّح بحمده بكرة وأصيلا… وإنّي لأكتب هذه الكلمات حتّى لا يُدرك القارئ المبتدئ من الشّقاء والحيرة والشّك والاضطراب ما أدركني وأنا في بداية إقبالي على الكتب والقراءة والعلم والأدب والفِكر…
ـــــــــــــــــــ
1) النّظراتُ ج ص:143-144.
2) كتاب إعادة النّظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام. 168.166 /بواسطة كتاب نظرات شرعية في فكر منحرف للخراشي 1/28.
3) معارك أدبية قديمة ومعاصرة ص:171-172.
4) نقلا عن نظرات شرعية في فكر منحرف 1/31
5) تاريخ الأدب العربي ص 1095 لحنا فاخوري.