أولا: ما هو تعريف الاختلاف وتدبيره؟
1- الاختلاف:
1-1- الاختلاف في اللغة:
تدل المعاني اللغوية لجذر (خ ل ف) في اللغة، على أن الاختلاف في أصل اللغة، فيه عملية تجاوز وتنحي لوضع سابق نحو وضع جديد يقوم مقام الأول ، وتدل كذلك على التغاير في الصفات والهيئات والأخلاق وعدم الاتفاق فيها.
ومما يؤكد هذا التوجه اللغوي: ورد في كتب اللغة أن “اختلف”: ضدُّ اتفق. وكل ما لم يتساو، فقد تخالف واختلف، وتخالف الأمران واختلفا: لم يتفقا. والخِلَافُ: المخالفة والخلاف المُضادّةُ..، ورجلٌ خَالِفٌ وخَالِفَةٌ أَي يُخالِفُ كثيرُ الخلاف،والقومُ خِلْفَةٌ، أي مختلفون.. ، وتخالف القوم واختلفوا: ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، فالخلاف ضد الوفاق .
1-2- الاختلاف في الاصطلاح:
والخلاف والاختلاف عند الفقهاء هو: أن تتغاير وتتباين آراؤهم واجتهاداتهم في مسألة ما، فيقول بعضهم بالوجوب، والبعض الآخر بالندب، والبعض الآخر بالإباحة.. وهكذا، ويعرف أحمد البوشيخي الاختلاف في الفروع الفقهية -بعد عرض ومناقشة تعريفات الفقهاء- بقوله هو: “تغاير أحكام الفقهاء والمجتهدين في مسائل الفروع سواء كان ذلك على وجه التقابل، كأن يقول بعضهم في حكم مسألة ما بالجواز، ويقول البعض الآخر فيها بالمنع. أو كان على وجه دون ذلك، كأن يقول أحدهم حكم هذه المسألة الوجوب، ويقول غيره حكمها الندب أو الإباحة” .
2- التدبير:
2-1- التدبير في اللغة:
“التدبير” في اللغة: دَبَّرَ الأمْر وتَدبَّره: نظر في عاقِبتهِ، واسْتدبَره: رأى في عاقِبتِه ما لم ير في صَدْرِهِ..، والتدبير في الأمر: أن تنظر إلى ما تؤول إليه عاقبته ،و”التَّدْبِير هو تَقْوِيم الْأَمر على مَا يكون فيه صلَاح عاقبته” .
يقول الجرجاني: “التدبير: استعمال الرأي بفعلٍ شاق، وقيل: التدبير: النظر في العواقب بمعرفة الخير، وقيل: التدبير: إجراء الأمور على علم العواقب، وهي لله تعالى حقيقةً، وللعبد مجازًا” .
وعلى هذا فإن “التدبير” في اللغة، يأخذ معنى النظر في عاقبة الشيء، والتفكير والتعقل فيه بتأني وروية، من غير استعجال، لإصلاحه، وسياسته، وإدارته بحكمة.
2-2- التدبير في الاصطلاح:
و”التدبير” يأخذ معنى النظر، والتفكر، والتقدير في عواقب الأمر المقدر، ومآلاته، وعوائقه، وآفاته..، من أجل تحقيق مقاصده ومصالحه المحمودة، واجتناب مفاسده، وآفاته، فسر ابن عاشور “التدبير الإلهي” في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾(يونس:3) بقوله: “والتدبير: النظر في عواقب المقدَّرات وعوائِقِها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودة العاقبةِ. والغاية من التّدبِيرِ الإِيجادُ والعمل على وَفق ما دُبّرَ” .فتدبير الأمر: التفكر فيه، وتقليب النظر في جهاته، وتقدير عواقبه وعوائقه، بقصد إيقاعه تاما، فيكون محمود العاقبة، وبذلك يتفق المعنى اللغوي والاصطلاحي.
وهو نفس المعنى الذي نستعمل فيه “تدبير الاختلاف” في هذه الورقة، بمعنى العمل على توجيه الاختلاف، بالنظر في عواقبه، بما يحقق مقاصده ومصالحه، واجتناب مفاسده وآفاته.
ثانيا: ما هو الفرق بين الاختلاف والخلاف؟
التفريق بين الاختلاف والخلاف، وعدم التفريق بينهما، مجرد اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، والذي عليه العلماء من الأصوليين والفقهاء في مؤلفاتهم، عدم التفريق بينهما، فإنهم يستعملون أحدهما مكان الآخر، بل تكاد تجد ذلك في موضع واحد، وفي مسألة واحدة، بل في سطر واحد، حيث يعبر باللفظتين في سياق واحد بمعنى واحد ، ويعبر الإمام الشاطبي عن معنى “الاختلاف” ب”الخلاف” يقول: “وإنما يعد في الخلاف: الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف..” .
وعليه فإن الخلاف والاختلاف عند الإمام الشاطبي وغيره من الفقهاء بمعنى واحد، بالنظر إلى معناهما العام .
ثالثا: هل تعتقدون أن المدرسة هي المسؤولة عن غياب ثقافة الاختلاف؟ وأنها المتهم الوحيد حسب ما يروج إعلاميا واجتماعيا؟
مؤسساتنا التعليمية تفتقر لثقافة الاختلاف وتدبيره، مثلها مثل واقعنا الأسري والسياسي والاجتماعي..، ودليل ذلك ما نشاهده ونعيشه يوميا في مدارسنا من مظاهر للعنف، تصل إلى مستوى إراقة الدماء، سواء بين التلاميذ، أو بينهم وبين المدرسين، فإن كل ذلك راجع إلى سوء الفهم للاختلاف وآليات تدبيره، لكن هل يمكن تحميل المدرسة مسؤولية ذلك؟
إذا تأملنا المسألة بعيدا عن الإعلام وتحيزاته، يظهر لنا أن المسألة على خلاف ذلك، فإن سوء فهم الاختلاف، وغياب ثقافته، ظاهرة عامة في مجتمعاتنا وفي كل مؤسساتها..، فإن الأسرة هي أول محضن تربوي للطفل، ثم بعدها المجتمع، والمدرسة تعتبر الحلقة الأخيرة في سلم الترتيب التربوي بالنسبة للطفل، وعليه تكون المدرسة ذلك الفضاء الذي يظهر فيه المتعلم ما تلقاه من سلوكات وممارسات خارجها.
فالمدرسة بناء على هذا جزء من المشكلة، بل هي المرحلة الأخيرة التي تظهر فيها تمثلات التلاميذ للاختلاف وقضاياه، لذلك ينبغي أن ننظر إليها على أنها جزء من الحل،تتحمل بعض المسؤولية وليس كل المسؤولة، هذا هو المنهج السليم والرؤية الصحيحة من وجهة نظرنا.
رابعا: كيف يمكن تعزيز ثقافة الاختلاف وتدبيره في مؤسساتنا التعليمية:
وبناء على أن المدرسة جزء من الحل، -كما أسسنا لذلك في الجواب عن السؤال السابق-،نعتبر التربية على ثقافة الاختلاف وتدبيره من صميم الرسالة التربوية التي تقوم بها المدرسة، فيجب على هذه المؤسسة أن تقوم بدورها في تعزيز ثقافة الاختلاف ونقترح لذلك ثلاث مستويات:
المستوىالأول: توفير طاقم إداري وتربوي متشبع بثقافة الاختلاف:
لأن القدوة الحسنة مهمة للغاية، والتربية تكون بالحال قبل المقال، وفاقد الشيء لا يعطيه، وبالنسبة لي أعتبر هذا العنصر أهم العناصر، والمتأمل في تاريخنا وسياسة الاسلام التعليمية، يجد أن أمر القدوة والأسوة من القضايا التي كانت تحضا بأولوية كبرى، فإن الآدابوالأخلاق الإنسانية هي جوهر عملية تدبير الاختلاف، لذلك ألف علماؤنا في “آداب العالم والمتعلم”، فإذا فقدت في المربي المدرس، أو المشرف على العملية التربوية، نكون قد فقدنا أول أساس تنبني عليه العملية التربوية عموما، وبذلك يصعب تعزيز ثقافة تدبير الاختلاف في الحياة المدرسية، ونقلها إلى المتعلم على المستوى النظري والسلوكي.
المستوى الثاني: البرامج والمقررات المدرسية: وذلك ببناء رؤية تعليمة تربوية، تأخذ بعين الاعتبار تعزيز ثقافة الاختلاف وتدبيره، وترجمة ذلك على مستوى المقررات الدراسية في مختلف المواد، مثل التربية الإسلامية والعربيةوالفلسفة والتاريخ واللغات الأجنبية كذلك بالانفتاح على الآخر، من خلال نقل ثقافته، ورؤيته للإله وللحياة وللإنسان..،ومقارنتها بالتصور الإسلامي، وبذلك تسهم اللغات الأجنبية في عملية التعرف على الآخر من خلال لغته ونصوصه الأصلية.
المستوى الثالث: تفعيل الأندية والأنشطة الثقافية والفنية داخل المؤسسات التعليمية: هذا التفعيل للأندية والأنشطة يساعد على تنزيل المعارف النظرية التي يتلقاها المتعلم، ويساعد على تصحيح الأفكار والمعتقدات، وتغيير السلوكات والممارسات السلبية، وفي هذا السياق ينبغي تكثيف الأنشطة التي تستهدف قضايا الاختلاف والتواصل والحوار،وتقنيات الإنصات والاستماع للآخر، وقيم الاعتراف والتسامح والعفو والعطاء والتعاون..، والقيام بأفلام قصيرة، ومسرحيات، ورسوم كاريكاتورية، ولوحات فنية.. من إبداعات التلاميذ، تجسد هذه القيم والتقنيات التواصلية والحوارية، وتقدم تحفيزات للأساتذة المشرفين على هذه النوادي، وللتلاميذ المتميزين والمبدعين.
فهذه الرؤية المتكاملة تؤسس لدور المدرسة في تفعيل ثقافة الاختلاف، فإذا كانت المدرسة تمتلك جزء من حل أزمة الاختلاف وتدبيره، فإن هذا الحل ينبغي أخذه كما نقترحه مؤسسا على مستويات ثلاث، لأن استهداف تعزيز ثقافة الاختلاف على مستوى “المقررات النظرية” فقط –وهو الأسلوب المعتمد إلى حد الآن- لا يعالج الإشكال، بل ينبغي أن نضيف إليه عنصر “القدوة الإدارية والتربوية”، و”الأنشطة الثقافية والفنية”، لنجمع بين النظري والعملي والسلوكي.
خامسا: هل لديكم تصور د.الصادقيلمشروع تربوي حول هذا الموضوع البالغ الأهمية؟
في الحقيقة يصعب اقتراح مشروع تربوي في هذه العجالة، لأن المقال لا يتسع لذلك، ولكن يمكن أن نعتبر ما أشرنا إليه في الجواب عن السؤال السابق، إحالة على معالم هذا المشروع، وقد قمنا في مركز تدبير الاختلاف للدراسات والأبحاث الذي نتشرف بإدارته، على إعداد ورقة تفصيلية في هذا الموضوع تستهدف المؤسسات التعليمية، تتضمن محاضرات، ودورات تكوينية، وأنشطة ثقافية، سوف نعرضها في الموسم الدراسي المقبل على الأكاديميات التعليمية، من أجل الموافقة عليها ومناقشة تفاصيل التنزيل والتمويل..
وقد قمنا في هذه السنة بتنظيم ندوة علمية بمؤسسة علال الفاسي التأهلية بإفران، وموضوعها: “العنف والحاجة إلى قيم الاختلاف من أجل بناء حياة مدرسية سليمة”، عالجت الندوة مفهوم العنف، وأسبابه ومداخله، والحاجة إلى قيم الاختلاف لمعالجة العنف، وتقليل من آفاته، وتمت معالجة كل ذلك برؤية شرعية وفلسفية واجتماعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد الصادقي العماري
sadikiamarimohamed@gmail.com