وقفة تأملية في أسباب نجاح الثورة المجوسية محمد بوقنطار

إن النظر إلى كثير من الأمور بشيء من الارتجالية والسطحية، بحيث لا تغوص النظرة في عمق مياه الحقيقة الراكدة، هي نظرات لا يمكن الاعتماد على نتائجها في باب الحكم على الظواهر والأشياء المحسوسة، فضلا على الأمور الكامنة المتوارية خلف الهالة الضخمة من المؤثرات المحرفة لمجرى الوقائع على الأرض.
ومثل هذه النظرات هي التي راكمت في سياق قراءتها المتاحة زيفا مدخولا صوّر الفساد إصلاحا، والكساد فلاحا، والبوار نجاحا، والمجوسية إسلاما، والقبورية توحيدا وإحسانا، بل أعطت انطباعات لا زالت الأمة تعاني من ويلات تشربها والانحناء لبريقها الخادع، ومثل هذه النظرات هي التي رسمت صورة سريالية عند تعاطيها مع الدعاية والدعوى التي تلت نجاح الثورة الإيرانية، وسحبت على الثورة والثوار والقائد هالة من القداسة وألقابا توقيفية لم يرجع في تحلية الغير بها إلى نص ولا مسوغ شرعي يمكن اعتماده في قضية وسم الثورة الفارسية بالثورة الإسلامية.
ومن تم إلحاق هذا الجسم الغريب بكيان الأمة الإسلامية، إلحاق له لوازم في منطق وأهداف ملالي إيران، وهي النظرات التي ساهمت في تشكيل ملامح ضجيج الانبهار الذي عاشه ليس المجتمع الغربي وعلى رأسه نظام الجمهورية الخامسة التي صنعت في أقبية مخابراتها ملامح الثورة وسباقات أحداثها وسياقات مآلاتها، إنّما عاشها المجتمع السني المتاخم بكل أطيافه.
وهو عيش يمكن الكلام اعتمادا على حقيقته على بوادر نجاح الثورة الإيرانية تحقيقا لا تعليقا، إذ عند هذه النقطة سيفتح هامش الكرّ على أمل ألا يقفل مشروعه مشروع الاستشهار لفكرة تسامي وتفوق الجنس الآري الفارسي على حساب تصاغر وانكماش المشروع السني الذاتي والاعتباري في المنطقة، وعلى اعتبار أن القائد الملهم للثورة الفارسية قد خلّص الأمة الشيعية من كابوس طول انتظار خروج مهدي السرداب، بل أوجد البديل الذي بات يملك تفويض التصرف نيابة عن الإمام تقعيدا للنظرية الجديدة نظرية “ولاية الفقيه”.
وهي النظرية التي ستدور على رحاها مشاريع عولمة المد الشيعي ونسف وطنية المنتمين إلى الفصيل الشيعي إلى الدرجة التي يكون معها العراقي الشيعي والبحريني الشيعي والكويتي الشيعي روحه تدور حول حشوش الحوزات والمراقد، بينما جسده يعمل معاول الهدم في عروش أوطانه المتسننة، وينفخ في رماد نيران المجوسية وفتنتها المردية.
ولنرجع للكلام عن تلك النظرات الخاسئة وهي تقرأ في الثورة الإيرانية الشيعية قراءة بسيطة، لا تتجاوز ربط أسبابها وعوامل نجاحها بكون الظروف كانت مهيئة لاستقبال الثورة في إيران، إذ غلا مرجل الشعب وبلغ حنقه زباه ونال منه ظلم الشاه نوالا يترجمه واقع ثراء فاحش وإلى جنبه فقر مدقع تعيشه فئة من الشعب عريضة، لا تجد ما تأكله في تمايز وتفاوت طبقي شارخ مستنكر، مع أن للبلد مؤهلات وثروات نفط وزراعة وسياحة قادرة على جعل الشعب على نسيج اجتماعي واحد، وهي أمور ستتناولها “ثورة الكاسيت” أو الشرائط الصوتية التي كانت تنتج في دهاليز الاستخبارات الفرنسية، والتي كان يرسلها الخميني من منفاه هناك في باريس ليمرر إشاراته الثورية التي عملت على نحو هذا الزعم والقراءة على تهيئة المناخ الثوري وإيقاظ الضمائر وتحريك الهمم وإلهاب المشاعر، التي ما إن أعطيت لها إشارة البدء حتى لبت نداء القائد، وخرجت إلى الشارع بكل أطيافها خروجا سيقف أمامه بشكل مفاجئ ينم عن أن ثمة أشياء تتجاوز هذا الضجيج كانت تحرك إدارة الأمور على الأرض، سيقف جيش الشاه بكل أسلحته الثقيلة والخفيفة البرية والبحرية والجوية عاجزا عن حماية إمبراطورية “شاه رضا بهلوي” والتي تم إسقاط نفوذها في غضون أيام معدودات.
ولعل جعل هذه الأمور في إطار هذه النظرة البسيطة أسبابا للثورة كما لنجاحها، هو جعل لا يجانب الواقع في بعض دوائر نفوذه، ولكن المردود والمعيب هو اختزال عوامل القيام والنجاح في هذه الأسباب حصرا دون تعديها إلى أسباب أكبر منها في باب الأهداف والمآلات، وها هي الأيام توقع على صدق ما ذهبنا إليه من استدراك واستطراد، إذ قامت ثورات شعبية كبرى في مجتمعات سنية عريقة وعلى رأسها الثورة المصرية فتواطأت على إجهاضها وتغيير مجرى التمكين لها وإعدام مشروعها في المهد والانقلاب عليها بقوة النار والحديد. عوامل خارجية وقوى إقليمية متواطئة لم يسجل غيابها في الثورة الإيرانية فقط بل كان لها الدور الريادي في إنجاحها والمضي بها قدما ورعايتها حضانة ورضاعة، ليس في الاتجاه الذي ينص سذاجة على أن الغرب وقف إلى جانب الشعب في ثورته ضد الشاه، بل في الاتجاه الذي ينص على أن الذي قام بالثورة الفارسية هو الغرب نفسه.
وكان من أبرز وجوه رعايتها افتعاله للحرب بين إيران الثورية والعراق السنية البعثية، ذلك أن ثورة الخميني لم تكن لتنجح ويمكّن لنجاحها لو لم تقم حرب استنزاف من جهة وتمكين من جهة، إذ كان الغرض منها إلى جانب إضعاف القوة العسكرية العراقية السنية المتصاعدة تذويب الخلافات والصراعات التي كانت بين العلمانيين والشيوعيين وأهل العمائم في مرحلة ما بعد سقوط حكم الشاه، وكانت تهدد مشروع الثورة وأهدافها الاستراتيجية في المنطقة، حيث ستوحد الحرب كل الأطياف خلف القائد الخميني الذي رفع شعار تحرير النجف وكربلاء من يد النواصب أعداء آل البيت.
بل سيعمل الخميني سيف الإعدام والبطش في رقاب العلمانيين والشيوعيين وعلماء أهل السنة وكذا فئة من الضباط والجنود المشاكسين من الجيش الإيراني السابق، حيث وصل عدد الضحايا إلى ما يزيد عن مائتي ألف قتيل، ولسنا في حاجة إلى التذكير بكون هذا وزيادة قد تم على مرأى ومسمع قوى الغرب المتواطئ.
والغرب وهو يساعد دولة الملالي لم يغب عن ذهنه ما راكمته التجربة المعرفية لمستشرقيه، من حقيقة مفادها أن الاطمئنان على مصير الكيان الصهيوني داخل وسط تعج جنباته بالخطر السني المحذق، لن يتأتى إلا بالتمكين لتاريخ المجوس من العودة كي يمارس خياناته القديمة الحديثة، خيانات ابن العلقمي، وخيانات نصير الدين الطوسي، وخيانات البدر لؤلؤ الشيعي صاحب الموصل، وخيانات الشيعة لدولة السلاجقة السنية، وخيانات تحكي قضية تواطؤ هؤلاء الأنجاس ومعاونتهم للصليبيين في حربهم على الإسلام والمسلمين.
فليس إذن من الصدفة في شيء اليوم أن يقع الاختيار على النفخ في رماد المجوسية الفارسية التي تلتقي مع المشروع الصهيوصليبي في مشترك العداء الأزلي لنبي الإسلام وصحابته الأبرار بل ودين الإسلام، مع واجب الاستدراك بما قاله شيخ الإسلام “فضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين، سئلت اليهود من هم خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: حواريو عيسى، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب محمد”.
عليهم من الله ما يستحقون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *