– “قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا” -مريم(18)-:
ووجه الدلالة -عنده- على أن اسم الرحمن اسم تخويف أن مريم لم تكن لتستعيذ إلا بما يخوف لا بما يفتح باب الرجاء والرحمة، وهذا استدلال باطل، فمريم إنما استعاذت باسم الله “الرحمن” لأن رحمته شملتها وشملت كل العالمين، فلا ملجأ لها إلا لمن كان كذلك، فبرحمته سبحانه سيجيرها من كل أذى، والمخاطب ستحمله تقواه وعلمه برحمة الله تعالى على عدم إلحاق أدنى ضرر بها.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:” {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} أي ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك التعرض لي فجمعت بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى.”( ).
يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى: “وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة( ) التي هي العصمة مما دهمها.”( ).
– “يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)”-مريم-:
ووجه الدلالة عند هذا المتأول المتعسف أن المقام مقام تخويف وليس مقام رجاء فإبراهيم عليه السلام خوف أباه باسم “الرحمن” فدل على أنه اسم تخويف ولو كان على المعنى المشهور -أي أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة- لكان إبراهيم عليه السلام ملقنا أباه حجته، كأنه يقول له: يا أبتي إنك مقبل على رب وسعت رحمته كل شيء فلا تبالي.
وهذا فهم سقيم واستدلال عقيم، فإن إبراهيم الخليل إنما استعمل اسم “الرحمن” في خطابه لأبيه لأنه أشد وقعا وتأثيرا من غيره، كأنه يقول لأبيه آزر: لا تغتر برحمة الله فإنه سبحانه لا تمنعه رحمته من الانتقام من أعدائه، وأعظم أخذ أخذ من اطمأن الإنسان لرحمته واستكان لها فاغتر بذلك وتمادى في الكفر والعصيان والظلم والعدوان، فلا تسل عن شدة أخذه وفجائة نقمته سبحانه.
يقول ابن عجيبة في تفسيره المسمى البحر المديد: “وإظهار {الرحمن}؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب، كما في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]”( ).
وقال العلامة التونسي ابن عاشور عليه رحمة الغفور: “لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمن انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم .
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمن للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة”( ).
يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى: “وإضافة العذاب إلى الرحمن …لأن العقوبة من الكريم الحليم أشد”( ).