لك أن تتخيل أن يكون الأستاذ المعلم يحمل قلما سيالا فيما يبثه ويحبره من طوباوية ومثالية داخل الفصل، وأن يكون في ذات الوقت وهو خارج هذا الفصل يحمل معول هدم وأدوات نسف وذلك من خلال تصرفاته ومألوف فعله المنافي والمناقض لكل ما كان يمليه وهو يمارس وظيفته من قيم ومثل عليا، تبين بالملموس والملحوظ أنها لا تدوم في جوفه ولا تعمر في ناصيته مدة مكثها على سبورة الفصل..
ولك أن تتخيل أن يكون الداعية إلى الله المشار إليه ببنان العدل وسبابة الفضل يعيش حالة انفصام بين ما يحمله من علم وأصول دعوة؛ وبين ما هو متأصل في طبعه مركوز في نفسه من زلات متتالية ومطبات متوالية، إنه لأمر تكاد منه الجبال تهد هدًا أن يكون القدوة؛ أو من هو فرضا في أعين الناس قدوة؛ هو أكبر العقبات في وجه حركة دخول الناس في دين الله أفواجا، بل توليهم مدبرين.
والساعة ساعة زحف والمواجهة على أشدها مع لوبيات العلمانية بكل أشكالها وتجلياتها، ومع الوثنيات العائدة بقوة ومع عصابات التشيع المجوسي الصفوي القادح في عدالة نقلتنا الناسف لتركة منقولنا المبارك النفيس.
إن وجود ذلك الانفصام أو الفارق الذي هو في الحقيقة شرخ برزخي بين ما تحمله الثقافة الفكرية للقدوة من حق وصواب وموضوعية؛ وما يمكن أن نسجله في دائرة المحسوس من نزق وميل ومجانبة للصواب في الممارسة السلوكية كثيرا والخطابية الشفاهية أحيانا لهذا الصنف من القدوة ذي الثقافة المعرفية المميزة والذيوع الإسمي الأفقي التركيز والمنهج؛ المنسوب إلى خيرية القرون الثلاثة لكفيل بأن يعود بالتلف والذهاب جفاءً لكل مجهود غايته إقناع شريحة من الناس يرجى ضمهم واستقطابهم وربح رهان إدخالهم إلى حظيرة التدين ومنقبة الالتزام المعافى الصحيح.
ولا غرابة في هذه النتيجة المأساوية المتحصلة إذ كيف يعطي الشيء فاقده؛ وكيف يجود بالوصل من هو مصارم لقضايا أمته؛ ومن هو عابث بمبادئ انتسابه؛ ومن هو منسلخ عن آيات الله التي هي في جوفه تكلبا وتكسبا وتقلبا بحسب ما تمليه عليه ضمائر المصلحة المنفصلة عن الكل المتصلة به وبما يخص من يدور في فلك مصلحته الفردية.
ومن هنا كان لابد أن نشير إلى نقطة بالغة الأهمية في سياق تعاطينا مع هذا الطرح الزائف؛ تلك هي نقطة أن ديننا لن يعيد بريق مجده السالف إلا إذا وضعنا على رأس الأولويات والمهمات في دائرة ترتيبها أصلا عن فرع مهمة صناعة جيل من العلماء الربانيين الذين يجمعون في دارة القدوة بين أسس العلم والعمل والتعليم، بل ويتجردون في إطار إسهامات فعلهم وفكرهم من الشخصانية والدوران في ضيق وضنك مصالح محيطهم الفرداني.
وهو جمع وتجريد لا يمكن أن يوجد دون مقابل، وإن وجد لا يمكن أن ينفك أثره عن فضيلة إيثار مصالح الأمة وحمل همّ الدعوة إلى الله على بصيرة وإخراج الناس من ظلمات الجهل الذي هو في مقابل العلم؛ وكذا الجهل الذي هو في مقابل الاستكانة والتصاغر بين يدي الله؛ وإدخالهم تحت لواء الكافة إلى مكرمة السلم الذي أمرنا ربنا أن ننضوي تحت نعيم عدله وواسع رحمته جميعا دون استثناء.
ولعل هذا لن يتحقق للساعين وراءه أو لا يمكن للساعين وراءه أن يتحدثوا عن حقيقة تحققه إلا إذا تظافرت الجهود وتجردت النيات وشمر على سواعد الإرادات؛ ووقف الكل على المكانة الفاعلة والضرورة الثقيلة؛ ضرورة وجود قدوة بين الناس يهتدون بقوله ويتدبرون في إمساكه وسكوته؛ ويتبعونه في حركته وسكونه وفي يقظته ونومه وفي سائر شأنه.
والقدوة بهذا المعنى تبدو ضرورة تفرضها الحاجة إلى تقديم النموذج المتسامي في الفكر والسلوك؛ نموذج يعد نبراسا وسراجا منيرا تهتدي بين يدي نوره النفوس المتطلعة من داخل دياجير ظلمات ركام المدنية المتفلتة من عقال المضبوط الأخلاقي؛ والمجادفة بفطرتها وصبغتها ضد التيار الجارف تيار الفوضى واللادين: تيار الإلحاد المادي الحائف المتطلعة إلى نعيم مقيم؛ الباحثة عبر هذا التطلع والمجادفة إلى عيش الحياة الطيبة التي لا كدر فيها ولا شوب.
ولذلك حث الله سبحانه معشر المسلمين على الاقتداء بالأنبياء والمرسلين وجعلهم قدوة وفي هذا قال سبحانه وتعالى:{قَدْ كانَتْ لَكُمْ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بل وأخبر سبحانه وتعالى معشر المسلمين على خير نموذج لهم ولكل من كان يرجو الله واليوم الآخر وذلك عند قوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
وقد حث رسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم على الاهتداء بالمشترك الدعوي لمن جاء قبله من الأنبياء والمرسلين؛ مشترك التوحيد والدعوة إليه مع ما كان ولم يزل يستلزم من صبر على إذاية المخالفين من أهل الكفر والشرك والإلحاد مصداقا لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.
ولقد ربى نبينا عليه الصلاة والسلام مجتمع الصحابة ومعشر الصحابيات وعلى رأسهن أمهات المؤمنين تربية سلوكية فاضلة شكلت فيها حياته الملأى بالعطاء والسخاء والصبر والحلم والعفو على مقدرة والمسارعة في الخيرات، ومسابقة الريح المرسلة في باب الإحسان إلى القريب والبعيد، والحرص كل الحرص على تقديم النفع للبشرية جمعاء -شكلت فيهاـ الجسر الذي عبره ولا يزال يعبره بعد الصحابة إخوانه الذين آمنوا برسالته ولم يروه إلى بر الآمان، حيث الزحزحة عن النار والإدخال إلى الجنة والفوز بمزيد النظر إلى وجهه الكريم.
وفي هذا يجمل قدوته قائلا عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”؛ وهو قول يحمل ما يحمل من الإيحاءات والإشارات التي ترد أهل الاتباع إلى كوامن الاقتداء من شخصيته الكريمة، وكذا الكشف بالإجمال وجوامع الكلم الذي يحيلك على تفاصيل جملة المميزات المعيارية والفضائل العلية التي تميزت بها شخصيته الكاملة في باب القدوة عليه الصلاة والسلام؛ من صلاح وإخلاص؛ وعدم غلظة وعدم تكلف؛ وحسن خلق وموافقة أمره ونهيه لكمال فعله؛ تأسيا بمن سبقه من المرسلين مصداقا لقوله تعالى على لسان خطيب الأنبياء سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
ويحسن في الأخير أن نقذف في قلب المتتبع لهذه السطور مؤكدين له ولغيره أن صلاح القدوة وحسن خلقه وموافقة قوله لعمله؛ وعدم تكلفه ونأيه بنفسه عن مواطن الشبهة الرد في مسألة حقيقتها وحقيقة وجودها؛ وإخلاص القصد من لازم وجودها الرد فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أسوتنا الأول وقدوتنا في الأخير، بحيث لا ينبغي التهوين من هذا الرد القويم والاقتصار على أركان طفت فوق ماء عكر؛ كرفع شعار محاربة قوى الاستكبار وعلى رأسها أمريكا وحلفائها، أو مسألة مخالفة أولي الأمر وما يمكن أن يلقاه المخالف من إذاية وتعذيب وسجن..إذ الاقتصار على هذه البدائل يجعل اليساري الماركسي الملحد قدوة لمن لا قدوة له.
وها نحن رأينا وسمعنا كيف أن بعض الذين حسبناهم في السجن صابرين مرابطين يعلمون النزلاء التوحيد وأحكام العبادات والمعاملات؛ فإذا بهم قد أغرقوا محيطهم بما عمت به البلوى وتخطى أبواب الزنازن ونط فوق أسوار السجون ليسمعه الأحرار من قبيل سب الصحابة والطعن في عدالة خال المؤمنين معاوية ومن معه من أهل الفضل المطلق؛ والقدح في أهل العلم واتهامهم بالنصب ومعاداة آل البيت؛ ومن تم نسف الإجماعات التي ظللنا نتعبد الله تعالى بها وسنبقى رغم زيف الزائفين؛ وخرص المتخرصين؛ ممن ينسبون إلى السلفية ظلما وجورا وتجوزا.