لم يكن الجهم بن صفوان من أهل العلم، ولم يكن من أهل العبادة حتى قيل أنه لم يحج البيت قط، وإنما كان ذكيا لسنا مجادلا … مجبولا على الاعتراض والمراء، هذه كل ثروته.
اتصل ذات يوم بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: “السمنية” وراح جهمٌ يجادلهم وهـو صفر من العلم معتمدا فقط على عقله.
وابتدئوا الكلام معه بالسؤال عن مصدر المعرفة (وهي أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر عندهم) وكانت فلسفتهم تـقوم على أن المصدر للمعرفة هو الحواس الخمس.
ونحن نقول أن المصدر اليقيني في المعرفة هو الوحي، وصدق الخبر نستدل عليه بصدق المُخْبر إنْ كتابا وإنْ سنة، ونقول أن الحواس لا تدرك الأشياء على حقيقتها أحيانا بل غالبا، فللعين مدى في الرؤيا لا تتجاوزه، وللأذن مدى في السمع لا تتجاوزه… وهكذا.
والعلم التجريبي نظريات يكذب بعضها بعضا، فنظريات اليوم تعدل أو تكذب نظريات الأمس، في الكمياء وفي الصيدلة وفي الطب وفي الفلك… الخ.
ولما كان الجهم جاهلا سلم لهم بأصلهم الفاسد هذا، فسألوه سؤالا آخر مبنيا على هذا الأصل، وهو صف لنا ربك يا جهم؟ بأي حاسة أدركـتـه من الحواس، أرأيته أم لمسته، أم سمعته.. الخ؟!
وسقـط في يد هـذا الضال المسكين..، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستـلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقـنوه. وقادتـه الحيرة إلى الشك في دينه، فـتـرك الصلاة مدة -أربعين يوما-، ثم استـغـرق في التـفكيـر والتأمل، حتى انـقـدح في ذهـنه جوابا خرج بـه عليهم قائلا: “هـو هـذا الهـواء مع كـل شيء وفي كـل شيء ولا يخـلو من شيء”. وهـذا الجواب الذي هـو أساس نـفي الصفات، ومن يبحث يجد أن نفي الصفات هو من قول طائفـة من زنادقة الهند.
ثم خطا الجهم خطوة أخرى وهي أنه راح يُدلي بدلوه في القضايا التي كان الجدال محتدما حولها ومنها قضية الإيمان، واعتمادا على عقله أخذ يفكر ثم خرج بما قاله في الإيمان، وهو أن الإيمان المعرفة، والكفر هو الجهل، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح -على حد قول الجهم وهو مخطأ-.
ثم خطا جهم خطوة أسوء من هذا كله، وهي أنه تعصب لمذهبه هذا وأخذ يبحث في الشاذ والغريب من أقول العلماء، ولوازم الأقوال ليثبت مذهبه.
فهاتان خطوتان رئيسيتين في سبيل المجرمين:
الأولى: التكلم عن جهل، أو أن يعتقد الرجل أن العلم كله عنده فحين يُسأل يجيب بما عنده وهو قليل ولا يراجع أهل العلم، أو يعتمد على عقله ويُنشأ أقيسه مَغْلوطة.
والثانية: وهي التعصب لهذا الرأي المنبثق أساسا من الجهل. ويذهب صاحبه للنصوص الشرعية ليحملها على القول بهذا الباطل.
وما أجمل ما قال الشاطبي -رحمه الله- وهو يفرق بين صاحب الحق وصاحب الهوى، يقول: إن صاحب الحق يذهب إلى النصوص الشرعية ينظر ماذا تقول ثم يمتثل، أما صاحب الهوى فيذهب إلى النصوص الشرعية ليأتي بها على هواه.
أو بكلمات أخر .
إن أصحاب البدع يعتقدون ثم يستدلون؛ كما يقول الشيخ بن عثيمين رحمه الله في آخر شرح نظم الورقات للعمريطي.
فهل يعرف قومنا فلا يتكلمون إلا فيما يعرفون… ولا يدخلون فيما لا علم لهم به؟
ثم إن هم تكلموا وتبين لهم أن الصواب غير رأيهم، فليتهم يرجعون إلى الحق ولا يتعصبون.
ثم تأتي خطوة أخرى وهي من فعل الأعداء، حيث يذهبون إلى هذه النماذج الشاذة فيلمعونها وينشرون فكرها؛ تماما كما حدث مع الهالك طه حسين.. ونصر حامد أبو زيد.. وغيرهم من أهل الباطل صنعوا منهم أبطالا مزيفون ورفعوا قدرهم كي يتقبل العوام قولهم.