لا يمكن للحياة أن تستمر دون “قانون” يقودها إلى تحقيق المبتغيات العلى، ذلك “القانون” هو العلم الذي شرفت به عقول بني البشر، بل إن الكلاب حظيت بهذا الشرف فتميزت عن سائر الكلاب قال تعالى: “وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلموهن مما علمكم الله” المائدة:4.
ولأجل ذلك لم يكن القرآن الكريم يغيب دور العلم في ترصيف الأفكار التي تنتج، والأفهام التي لا تنفك عن التجديد والاختراع والابتكار.
إن القرآن الكريم لا يؤثر فيه سياق معين، ولا يخضع إعجازه لتجدد الزمن وتغير متطلبات العصور، بل إن ذلك الكتاب يكتنف السياق الاجتماعي والحضاري والفكري…منذ أن نزل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبذلك يحق لنا أن ندحض فكرة تاريخانية النص القرآني، والتهمة الباطلة القائلة، بصلاحية القرآن للأقوام الذين عايشوا نزوله، بمعنى أن القرآن عندهم، مجرد وثيقة تاريخية، ينبغي عند تحليله وتفسير نصوصه مراعاة السياق الذي نزل فيه فقط.
وهذا غمط لواقع الحقيقة التي يثبتها القرآن نفسه، إذ إن الوقوف على بعض الحقائق القرآنية تشهد ببطلان ما ادعوه من افتراءات تلاك على ألسنة من لا يتفكر ولا يتدبر ألبتة.
ولك بين آياته وسوره ما يستدعي التدقيق عند النظر، لتوقي الوقوع في المزالق والحفر، فإذا كنا نحكم بأن القرآن يخضع لسياق معين، فلم نجد بين دفتيه نصوص تتكلم عن علوم انتشرت عند أقوام بائدة؟؟ بل لماذا يذكر القرآن حقائق علمية منها ما تحقق وكثير منها لا تزال العقول في حيرة أمام عدم تحققها؟؟؟
إن صاحب معلم موسى عليه السلام والذي نقل أنه كان يسمى الخضر، لم تكن له وسائل تنصت ولا مجسات يعرف بها ما تحت الأرض، ومع ذلك علم أن السور يكتنف كنزا لليتيمين، والأغرب من ذلك أنه علم أن كفر الغلام سيرهق الوالدين، وهذا إعجاز مفاده أن بني البشر مهما تعلموا وعلموا فإن القرآن كان سباقا لتعليم ما لا يمكن أن يعلموه ويعلموه، فهل من معلم في الدول المتقدمة والمصنعة -والتي تدعي أنها أحمكت قبضتها على تلابيب العلوم- يستطيع أن يعلم الناس الاطلاع على ما في صدورهم من إيمان وكفر؟
إلا أن الحق يقول: “واتقوا الله ويعلمكم الله” البقرة:282، وقال تعالى: “وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة” سورة البقرة الآية 31
وبذلك يتحصل أن الخضر عليه السلام لم يكن عاصيا لله، لذلك علمه من العلم ما لو سكت موسى، لأراه من الحقائق الخفية والأسرار الربانية ما لا يستطيع العقل تصوره.
ولو حكمنا بأن القرآن يتأثر بالسياقات المختلفة والمتجددة، فيفحم متبعوه، وتختفي حقائقه، لما سلمنا بأن تفسير قوله تعالى: “ويخلق ما لا تعلمون” سورة النحل الآية 8، قد يشمل وسائل النقل من طائرات وسيارات وبوارج… بل وقد تخترع وسائل أخرى أشد تطورا، لتدخل تحت هذا المعنى، أحب من أحب وكره من كره، لأن السياق يقتضي الكلام عن المركوبات.
وبالتالي لا يمكن أن نخضع القرآن الكريم للسياق الذي نزل فيه فقط، ولو كان الأمر كذلك لما جادت القصص والأخبار بحكايات وقعت في زمن سبق زمن النزول، وتدبر إن شئت قصة سليمان مع الملكة بلقيس، يمكن أن يقال إنها سيقت لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما نقله أغلب المفسرين، ولكن ألا يمكن أن نستدل بها عند ما يتبجح الغرب بجدة علمه وتطوره؟
قال الحق عز وجل: “قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك” النمل:27، ولو لم يكن لذلك المخلوق علم، لما أتى بملك بلقيس في ذلك الزمن القياسي، وهنا يظهر الفرق الجلي الواضح بين الملك الذي استند إلى علم ليتفادى الخسائر وإراقة الدماء، وبين الملوك التي تستند على الطغيان والقوة والجبروت، لأجل الاستعمار والخراب الدمار.
فهل يستطيع الملوك على وجه الأرض، أن يجدوا من يمتلك علما يساعدهم على سلب عرش الآخرين دون حرب؟ أظن أنه علم لا يمكن أن يحيط به بنو البشر الآن.
وتتعدد الصور العاكسة لمثل هذه اللوحات التي تنقل لنا عبر رسوماتها، أنه مهما بلغ التطور الحضاري والتكنولوجي…فإنه لا يجد الإنسان بدا من الانصياع والاستسلام لما جادت به صفحات القرآن الكريم، من نقل لتحديات لا يستطيع أهل العلم الدنيوي معرفة كنهها.
وعلى ذكر العلم الدنيوي، سيقول قائل إن الدول المصنعة الكبرى، ونوادي الاختراعات، قد توصلت إلى حقائق واكتشافات دون الاتصاف بالتقوى والإيمان الذي ذكر آنفا، وقد نسايره ونقول له: إن فرعون بنى ما بنى من الأهرام ذات المواصفات المحيرة، لكن القرآن يجيب بأن استخدام العقول أمر مطلوب مرغوب فيه، إلا أن ما ينجزه غير المؤمن بالله لا يعدو أن يكون إنجازا نسبيا، في مقابلة ما استطاع أن ينجزه ذو القرنين مثلا، حينما طاف بالأرض شرقا وغربا حتى بلغ مغرب الشمس، دونما اعتماد على وسائل نقل أو ما شابه، بل إن محمدا صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى السموات العلى، كان في ذلك إشارة إلى المتغطرسين بصعودهم إلى الفضاء، على أن ما أنجزوه لا يعد في قاموس الإسراء والمعراج شيئا.