العيب في كيل المطففين كبير لكنه في الكيّال أكبر عبد المغيث موحد

لقد بات معلوما من الواقع بالضرورة أن المشروع العلماني غدت بغيته ترك سعي الإنسان مجردا عن أي صلة بأصوله العقدية، حرا طلقا يعب من الفجور ما يبغي وينهل من مستنقع الإباحية فوق ما يكفي، حتى إذا استهجنت البيئة، وتعهرت ملامح المدنية، ووقع الانسلاخ الكلبي الذي ينجس الفطرة، ويئد الصبغة في لحد المروق ورمس العقوق، خرج إلى الوجود الإسلامي ذلك الجيل المأمول استهلاله من القوى المناوئة والقلوب المتربصة؛ جيل ينفخ في ضرام الفتنة ويدخل الأمة في أتون الفرقة والموات التاريخي؛ جيل همه عيش حياة الأنعام؛ حياة تعلق قلبه بأذيالها حد الحرص والإنابة، فقبل أن يأتيه نوالها ابتلاءا على أنقاض دينه وأطلال عزه وكرامته.
وهذا الاستهلال المأمول هو الذي قرت به عيون الحاقدين، ورقصت على نغمات عويله قلوب الكائدين، وكيف لهذه العيون ألا تقر، وهذه القلوب ألا ترقص، وهي ترى وتسمع عن هذا الصنف الذليل من بني الجلدة، وهو الذي آثر قرع باب الاغتراب باحثا عن طوق النجاة راغبا في ثوب العافية، ليواري به سوءة ذلك الرجل الذي كان قد وصف بالمريض من عصبة اللصوص ورواد الاستبداد العالمي قديما.
ولعل هذا الاستهلال هو الذي أوجد هذا الوضع العليل المصاب بالتقطع العقلي، والإلحاد الديني والمروق الاجتماعي، وهو وضع وكما لا يخفى على البصر وإرجاعه قد أوهن العباد وزلزل البلاد، وأطمع الغريب في قصعتنا، وألب القريب في عناد وسفاهة ضد مشروعنا الإسلامي السليم من كل علة.
ويحسن بنا في هذا المقام التنبيه بالإشارة إلى ذلك الفرقان الذي كان وفقدناه في أيام الغربة والتخوين، ذلك الفرق بين حرية العقل في ظل ضمير الشرع، وبين فوضى الطبع في عبثية الهوى، وبفقده استنسخت الكثير من المعاني، وتقولبت بعض الأمور واختزلت اختزالا فيه من الفروق والمروق ما هو كفيل بإحداث تحول لا إرادي يسوقنا صوب بيئة الأفن والدرن والعفن.
فإلى العهد القريب كانت رمزية الثقافة محصورة في قلم سيال متخلق، وكلمة مضبوطة هادفة، وأدب رفيع تتوسط صفحات بياضه بحور الشعر القاصف، وسطور النثر الهادف، واليوم ومع اتساع خرق رقعة ذلك الفرق المفقود اختزلت كلمة الثقافة في ضرب الطبل والنفخ في مزمار الشيطان، وحك حبال الكمان على إيقاعات الموازين الخاسرة، يصاحب هذه الجوقة النكدة هزّ الأرداف، وطأطأة النواصي السافرة؛ نواصي نسوة الحداثة صويحبات الكيد العظيم، ينادمهن شباب راعن ميزة ارتجاله المنتدب؛ سراويل فضفاضة حاسرة عن خصر المروءة وحزام الحياء. وكم هو جريء ذلك النبس الماجن الذي يصف هذا الحيف بأنه كسب ثقافي، بات يشكل في اجتراره العاشر معلمة وطنية وجب العض على فوائدها بنواجذ الإخلاص والمتابعة؟
فيا ليت شعري أي نكر في هذا الخرص؟
وأي رشد بلغته هذه السخافة التي تجعل المعطوب يوثر بانتشاء حالة الكسر على ضرورة الجبر؟
سخافة يوثر صناعها ضخ المال العام في جيوب الواردات الاستهلاكية من فنانات العري ورائدات العهر، نجوم الفتنة الأخاذة التي لا تبقي ولا تذر، والتي فعلت وتفعل فعلها في طريق سعينا التكليفي صوب منزلة الوسط وحجية الشهادة، فتصرفنا عبر استنزاف القوة وإقعاد السبيل عن كل سبب فيه عزة وتمكين، ومسبب فيه عافية ومداواة..
ولأن ديننا لا يفرق في باب الجزاء بين الفاعل والمفعول في كل شذوذ، ولا بين راش ومرتشي ورائش، ولا بين رابي ومربي ورائب، فإننا وليس على بدع قول لا نريد أن نخوض مع كثرة الخائضين الذين تعرضوا للمطفف وبضاعة التطفيف بسوط النقد، بل مرادنا على غير سبق أن نوجه سوط اللوم لصنيع الكيال، ولعل من المأثور عن آبائنا قولهم في هذا الباب كناية عن ذالك التلازم: “لكل فولة كيال”.
فماذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صانعا لو أن أحدَ أبناء أمة دعوته نصب السرادق وجمع القيان والجواري من المسافحات والمتخذات الأخدان؛ لينشطن بثقافتهن المجتمع المدني الفاضل؟
لا شك أن هذا المهرجان كان سيبوء بالفشل، لا لشيء إلا لعلمنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد سبق أي مهرجان ماجن بتربية جيله الفريد على وفق موازين القسطاس المستقيم، الذي مفاده الإمساك وقت الإمساك والكر ساعة الفر، فإلى الذين استبطأوا هذا المنهج النبوي القويم، وسلكوا في بغية الإصلاح مسلك الكراسي الحركية التي لا تغني ولاتسمن اليوم من جوع؛ اللهم رفع السبابة أو ضمها إلى وراء القفا حسب ما تقتضيه المصالح الحزبية الضيقة، والمزايدات السياسية اللبقة، عليهم أن يستلهموا في مقارعة الباطل من منهج سيد الخلق، وأن يستمدوا أدوات المقارعة من ميراث سيرته الشريفة، وأن لا يعلقوا غسيل اللوم والتسخط على شماعة المطففين؛ صناع الفرجة الثقافية في ثوبها الحداثي القشيب، وليعلموا أننا قد نمضي من حياتنا عمرا في الدعوة إلى الحق، لكنها دعوة لا تتجاوز تقريره، ولا تبالي بكلفة تفعيله وإخراجه من حيز المسطور إلى فضاء المنظور، ولعلها قيمة أجل بكثير من مجرد الجود بمعرفة هذا الحق وملئ جعبة المتلقي بثقافته، ثم إخراجه بالتواتر كتراث شفهي قد حصلت له حالة الركون والانفكاك عن قضايا الواقع المعاش؛ واقع بات في قبضة القوى العلمانية تعتصر باكورته السواعد المستغربة، وتتنعم باحتكاره الأكف المتضرعة بإخبات إلى وثنية الحياة المادية الماجنة، ولا نستغرب بعد هذا التخلي إذا أجاب أحد رافعي سبابة الإسلام الحركي عن موقفه من الخمر إذا تولى منصب رئاسة الحكومة، فتولى عن الزحف وقال: ستشغلنا عن بث تحريمه قضايا البطالة، وأوراش التطبيب، ومشاريع التطاول في البنيان.
فأي جدوى أن نشغل المناصب الشاغرة، ونملأ المراكز الاستشفائية، ونعلي في البنيان بالموظف والطبيب والبناء الذين تجمعهم رابطة معاقرة الخمور، إننا مع هذا التولي لا ولن نستطيع أن نقف أمام سيل الباطل العرم، لكننا متى ما عدنا إلى تبني منهج الرسالة؛ منهج التصفية ثم التربية عبر خلق البيئة الإسلامية التي تعيد للغيرة الفطرية بريقها، تلك الغيرة التي ألهمها الله قوامة المسلم ليحمي بها الأرض والعرض، حتى إذا أصيب بسوء سبقته بشرى من مات دون عرضه فهو شهيد.
بيئة تستطيع فيها المرأة المسلمة أن تفاضل بين مصيبة خروجها وقد وقب الغاسق بشروره كاسية عارية، وبين الوقاية من خسارة ما نقله الصحابي أبو هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من امرأة تطيبت للمسجد فيقبل الله لها صلاة حتى تغتسل منه اغتسالها من الجنابة”.
إنها بيئة لا يمكن أن يتفشى في محيطها الخلط، ولا أن يتعسر فيها الضبط، ولا أن ينجو فيها الزبد من مصير الذهاب جفاء، وحتى إذا ما نصبت سرادق الموازين الخاسرة في محيطها، فلن نكون في حاجة إلى احتجاج تعمه فوضى التكسير، وتليه حسرة التخسير، وحتى إذا استضافوا نجوم السراب، فإننا نستطيع أن نمسك عن الصدور أفواجا، لأننا تعلمنا أن نعيش عيشة الأحرار الذين يحبون أن يشكروا الله على نعمة الإطعام من الجوع والأمن من الخوف شكر الأبرار، ويتعوذون بعزته أن يجحدوا جحود الأشرار، وأي ما اختلال فلا لوم إلا على كيال الحشف مع سوء الكيلة، ولا لوم إلا على من دنس فطرة الاستهلال من الذين حذرهم الله ونراهم اليوم قد نسوا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم:6).
فأي عذر لنا نحن المسلمين بعد هذا النسيان؛ وبعد هذا التكليف، فلا حجة وقد انعقد إجماع أمة العلماء على أنه لا حضانة لكافر ولا لفاسق لنسمة أصلابنا من المهد إلى اللحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *