الأجوبة الشافية عن الأسئلة المصيرية -12- ذ. عبد اللطيف الخيالي

لقد تأثر العديد من علماء ومفكري الغرب بالعلماء والمفكرين المسلمين، كما أثرت أفكار ابن حزم النقدية في العديد من متزعمي حركة الإصلاح الديني في أوربا وعلى رأسهم فولتير… وما زالت كتب العديد من علماء الإسلام تعتمد في الجامعات الغربية ليومنا هذا… فالمسلمون ترجموا العلوم القديمة علوم اليونان والإغريق كما أسسوا المنهج التجريبي، فتحول العلم من مجرد نظريات إلى أعمال تطبيقية.
تقول زيجريد:… تميزت خطى العرب بثباتها اليقيني فقد سلكوا نهجا وعرا، صعودا من أسفل الدرج في تسلسل تدريجي يتغلغل دنيا الحقائق العلمية كل منها على حدة: المنهج التجريبي القائم على الرصد والملاحظة دون ملل أو كلل، والقياس والمعادلات والحلول الرياضية والترقي في صبر وكبد من الخاص إلى العام. ولئن كان اليوناني في جوهره من فلاسفة الطبيعة (مع وجود استثناءات) فإن العربي قد غدا عالم الطبيعة بالمعنى الحرفي للكلمة ومخترع علم الطبيعة التجريبي، ولقد عبد العربي بآلاته حقول العلوم البكر الوعرة تعبيدا، ومهد طرق البحث تمهيدا… هذا ولم يتردد العرب بحال من الأحوال في امتحان الفروض اليونانية وإخضاعها لمعايير النقد العربية التجريبية -وكان معظم تلك العروض لا أساس لها سوى التخمين- وصوبوا مئات ومئات من تلك الفروض الخاطئة1.
لقد أبدع علماء الإسلام في جميع العلوم من طب وصيدلة وعلم الحساب وبصريات وعلم الفلك… حيث اخترعوا عدة أجهزة كان لها دور كبير في تطور العلم، وقد تفضلت بعض المتاحف مؤخرا بعرض ما توفر لديها منها مشكورة على ذلك. كما برع علماء المسلمين في الفن والمعمار، ويعد قصر الحمراء خير شاهد على ذلك ليومنا هذا، وقد بثت إحدى القنوات العربية الذائعة الصيت حلقتين قامت بترجمتهما إلى العربية من إنتاج قناة غربية تحت عنوان: “الأندلسيون”، قال أحد علماء الآثار الغربيين في نهايتهما: “لولا دخول العرب إلى الأندلس لما كان هناك أي احتمال لتعرف أوروبا أي ثورة علمية أو فكرية”.
إن السبب فيما حققه علماء الإسلام من نبوغ واهتمام بالعلم يرجع إلى المكانة التي أعطاها هذا الدين للعلم والعلماء: فأول كلمة وحي تلقاها محمد صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: “إقرأ” وهي دعوة صريحة للقراءة، التي تعتبر أول خطوة لتحصيل العلم، الذي بدونه لن يستقيم أمر الدين والدنيا.
لقد أثنى الله على عباده العلماء فقال:
– “إنما يخشى الله من عباده العلماء” فاطر 28.
– “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم” آل عمران 18.
إن الإنسان الطموح يسعى للوصول إلى الدرجات العلا، فأولى بذلك المؤمن الذي يسعى لمرضاة الله، ولما كان فضل العلماء على البشرية لا يمكن أن ينكره أحد، ما كان للرسالة السماوية خاتمة الرسالات إلا أن تعطيهم المكانة التي يستحقونها، كما أشارت إلى ذلك الآيتان السابقتان. إن الجهد العظيم الذي يبذله العلماء لا يمكن لأحد إلا الله أن يجازيهم عنه؛ لأنهم يفنون أعمارهم من أجل خدمة الآخر، ويحرمون أنفسهم أشياء كثيرة يستمتع بها غيرهم، فتجدهم يسهرون الليالي الطوال، ويقضون الأيام والشهور بل السنوات من أجل تقديم شيء جديد للبشرية لتنتفع به.
أشير إلى معلومة مهمة تبين لنا فضل علماء المادة: بعد أن ثار الغرب ضد الكنيسة انتشر الإلحاد وبدأت تطرح عدة أسئلة من بينها كيف وجد الكون؟ وكان الجواب بسيطا للغاية رغم مخالفته للعقل والمنطق، وهو أن ذلك حدث صدفة! (الصدفة لا تنتج شيئا بسيطا بلغ الدقة في التنظيم، فما بالك بهذا الكون الفسيح!) ولكن اليوم لم يعد الإلحاد منتشرا كما كان ساعتها، لأن أغلب الغربيين يؤمنون بوجود الخالق، رغم انتشار بعض الأفكار الإلحادية بينهم، مثل نظرية التطور التي أثبت قانون الثاني للفيزياء الحرارية (Thermodynamique) أنها خاطئة، وقد تم إسقاطها من المقررات الدراسية في ولاية كانساس الأمريكية سنة 1999، وانتقل الأمر إلى ولايات أخرى، لدرجة أن إدارة التعليم في كل من ولايتي تينيسي ولويزيانا أصدرتا قرار يعطي الحق للمدرسة الحكومية أن تطرد أي مدرس يقوم بشرح نظرية التطور على أنها حقيقة علمية مسلم بها…2.
السؤال الذي يجب أن يطرح: كيف عاد الغرب إلى حقيقة وجود الله؟
يقول عبد الفتاح عفيفي طبارة: فقد نشر الدكتور” دينرت” الألماني بحثا حلل فيه الآراء الفلسفية لأكابر العلماء الذين أناروا العقول في القرون الأربعة الأخيرة، وتوخى أن يدقق في تعرف عقائدهم فتبين له
من دراسة 290 منهم أن:
– 28 منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما.
– 242 أعلنوا على رؤوس الأشهاد الإيمان بالله.
– 20 فقط تبين أنهم غير مبالين بالوجهة الدينية أو ملاحدة.
فإذا اعتبرنا غير المبالين كلهم ملاحدة وجدنا أن 92 في المائة من كبار العلماء يعتقدون بوجود الله. فهذه النسبة الكبيرة تدل دلالة صريحة على أن التناقض بين الإيمان والعلم الذي يزعم الماديون أنه وصف مميز للعلماء ليس له أصل، وتشير أيضا إلى أن الإيمان والعلم يتكاملان ولا يتنافيان3.
إن الذي أقنع الغربيين بوجود الله هم علماء المادة الذين قادتهم أبحاثهم العلمية إلى أنه لابد لهذا الكون من خالق، وأنه يستحيل أن يكون جاء صدفة؛ لذلك تجد الإسلام يخاطب العقل والوجدان، ويدعو للتفكر فى خلق الله، واستخدام الحواس والملكات التي وهبها الله للإنسان على أحسن وجه ليتوصل إلى حقائق الأمور، ومن سلك هذا الدرب وصل. بل حذر كل التحذير من جمود الفكر والحواس، وعدم توظيفهما على الوجه اللائق؛ لأن ثمن ذلك سيكون باهظا جدا! ألا وهو خسارة الدارين والعياذ بالله.
يقول سبحانه وتعالى: “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون” الأعراف 179.
– “وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير” الملك 10- 11.
لقد فضل الله الإنسان على سائر المخلوقات بالعقل، فإن هو وظفه في التفكر والتدبر في آيات الله في الكون وفي الخلق كان من الفائزين في الدارين، وإلا صار أقل شأنا من جميع المخلوقات، وتلاعبت به الأهواء وصار لعبة في يد من يتقن المكر والخديعة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
– «ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم»4.
– «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»5.
– «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»6.
– « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم »7.
إن منزلة العلماء الصادقين المخلصين لا تفضلها إلا منازل الرسل والأنبياء، لذلك اهتم المسلمون الأوائل بالعلم أيما اهتمام، وساحوا في الأرض يبحثون عن منابعه؛ لأن المؤمن العاقل يعلم أن دقائق عمره ثمينة وأن عمره قصير، كما يعي جيدا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه»8.
كما حذر الإسلام رجال الدين أشد التحذير من كتمان العلم فقال سبحانه وتعالى: “إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون” البقرة 158.
وقال سبحانه: “إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم” البقرة 173.
بعد كل هذا نخلص إلى التالي: العالم مدين لعلماء المسلمين لما قدموه للعلم من خدمات جليلة لولاها لضاع العلم.
ــــــــــــــــــــــــــ
1 – زيجريد هونكه، الله ليس كذلك،، ص: 81.
2- مجلة الإعجاز العلمي، العدد الخامس، “التربويون في أمريكا يسقطون نظرية التطور”.
3- عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، ص: 84.
4- سنن الترمذي حسن غريب كتاب الزهد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، باب منه، (2322)، حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1609)، كما حسنه النووي.
5- صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد الوفاة (1631).
6- سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على… (3641)، حسنه ابن حجر، وصححه الألباني.
7- سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه (2685)، صححه السيوطي في الجامع الصغير، والألباني في صحيح الجامع الصغير.
8- سنن الترمذي، حسن صحيح، كتاب صفة القيامة والرقائق…، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417)، صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 7300.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *