د. محمد الدريج: تراجع سلطة الأب في ظل التغيرات والتحديات التي تواجه الأسرة المغربية تسبب في ظهور العديد من الظواهر الشاذة حواره: الحسين باروش

 

 

مع وظيفة الأسرة في بناء الفرد والمجتمع؟

نقيضة/مفارقة تواجهنا بالضرورة كلما حاولنا تناول موضوع “المدرسة والديموقراطية”، نعبر عنها كما يلي: لا أحد يشك في الآثار التربوية الكبيرة التي تحدثها المدرسة في شخصية الطفل وفي تنشئته الاجتماعية، ولكن لا ينبغي أن تحجب عنا هذه الحقيقة، أن أول ما يتأثر به الطفل، وربما أعمق وأخطر، هي الأسرة ببنيتها وأساليبها في التنشئة ونوعية العلاقات السائدة داخلها.. فإذا كان معدل عدد الساعات التي يقضيها التلميذ المغربي في المدرسة الابتدائية حوالي 975 ساعة فقط في السنة بالمدرسة من أصل 8760 وهو عدد ساعات السنة.

في حين يقضي خارج المدرسة بين أحضان أسرته أو في الشارع وفي غيرهما من المؤسسات والفضاءات، حوالي 7785 أي أن ما يقضيه خارج المدرسة من وقت هو أزيد من 90 في المائة يتعرض فيها لتأثيرات مباشرة وغير مباشرة، كثيرة ومتنوعة وهكذا يكون ما سيكتسبه من معلومات وسلوكات ومبادئ وقيم، بما فيها مبادئ وقيم الديمقراطية أو اللاديمقراطية، خارج المدرسة أكبر وأقوى وأشد تأثيرا خاصة تلك التي يتعرض لها في سن مبكرة.

 

ما سبب فشو السلطوية في التربية العربية عموما والمغربية بوجه خاص؟

تعد الأسرة في المجتمعات العربية بما فيها المغربية وكما تثبته العديد من الدراسات الاجتماعية والتربوية والنفسية الحديثة، من أهم مصادر سيادة السلطوية والتي تعمل كأداة لتخليد الهيمنة الاجتماعية من خلال تنشئة الأطفال على الصمت والخضوع والتبعية وتربية الأفراد على أساليب قمعية وتعسفية.

فالأسرة هي الرحم الذي ينبت فيه الفرد وينمو ويكتسب ثقافته ويشكل شخصيته ويستمد سلوكاته وكثيرا ما يكون الفرد مثل عائلته التي غالبا ما تكون هي بدورها مثل مجتمعها لأنها تشكل مجتمعا مصغّرا (انظر يزيد عيسى السورطي (السلطوية في التربية العربية عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2009).

ومن مظاهر التسلط الأسري حسب هذه الأبحاث شيوع قيم القهر والعنف في النسق التربوي للأسرة واستخدام أساليب التهديد والوعيد والعقاب البدني من الكبار ضد الصغار ومن الرجال ضد النساء.

وتبين الدراسات أن كثيرا من الآباء والأمهات يعتمدون في عقابهم على أسلوب الضرب المباشر للأطفال والتأنيب المستمر والأحكام السلبية، واللجوء مع الصغار إلى نوع من التخويف والترهيب كما في الحكايات الخرافية التي يحكيها الكبار للصغار والتي كما يعلم الجميع تحمل في طياتها قيما ومبادئ على الطفل أن يتعلمها ويستبطنها وهذه القيم هي في الغالب قيم التحكم والغلبة والتبعية والخضوع..

 

في نظركم؛ ما الآثار الناتجة عن هذا النمط من التربية الأسرية؟

أولا انخفاض التحصيل الدراسي، الاكتئاب، الشعور بالذنب، الخجل، العزلة، اختلال الصورة الذاتية وضعف الثقة بالنفس، اضطراب النوم، ضعف التركيز، الشعور بالعدوان. وقد يصبح الطفل مضادا للأسرة والمجتمع فتزيد الأسرة من رفضها له وعنفها ضده، مما قد يقوده إلى الإدمان، أو الإجرام أو الانتحار.

كما تؤدي هذه التنشئة التسلطية إلى ضعف تحقيق الطفل لذاته وإشباع حاجاته كما يحسها بنفسه، فتتشكل شخصيته ضعيفة مرتعبة تخشى السلطة وتعتمد على غيرها لحل مشاكلها، عدوانية تعتدي على ممتلكات الآخرين.. وما المشاهد التي أصبحنا نلاحظها مؤخرا من اعتداءات على الأشخاص والممتلكات وحالات الاغتصاب في واضحة النهار… سوى تشخيص لتلك النتائج، ويحق لنا أن نتساءل معها: كيف يمكن أن تصحح المدرسة مثل هذه الأخطاء والاختلالات، وهل بإمكانها ذلك أصلا، علما أن المدرسة ذاتها تعاني الكثير من المشاكل التي تعجز عن حلها، الوضعية التي ينطبق عليها المثل السائد “تمسك غريق بغريق”؟

 

هل هناك وسائط أخرى تؤثر سلبا أو إيجابا في تربية الطفل؟

بطبيعة الحال هذه الحقائق لا ينبغي أن تحجب عنا حقائق أخرى تتجلى في التحولات  الكبيرة التي بدأت تطرأ على علاقات وأساليب السلطة والتسلط داخل الأسرة العربية والأسرة المغربية بشكل خاص، وتجعلنا مرة أخرى أمام مفارقة/نقيضة جديدة. فإذا كانت هذه السلطة متمركزة (في يد الأب أو الجد أومن له شخصية قوية داخل العائلة) فإنه في الوقت الحاضر أصبحت سلطة الأب في منافسة قوية لمؤسسات أخرى ومنها وسائل الإعلام المسموع والمرئي والعالم الرقمي (الانترنيت والألعاب ومواقع التواصل الاجتماعي…) والتعليم والمسجد والجمعيات وفضاءات الشباب والألعاب والمباريات الرياضية…

فاليوم لم يعد هناك، على الأقل في بعض الأوساط المتعلمة والغنية وإلى حد ما الوسطى… هذا الأب المسيطر والمهيمن والذي يمتلك القدرة على تسيير الأسرة والتحكم فيها بشكل مطلق، لم يعد يلعب نفس الدوره اعتمادا على التوجيه والتربية والتنشئة والنصيحة، كما أن حضوره لم يعد مكثفا كما كان في السابق، بالنظر إلي انشغالاته أو هجرته، وبالنظر إلى الدور المتزايد للأم لخروجها للعمل ومساهمتها في التدبير المالي لميزانية الأسرة، وبالتالي فإن سلطته داخل الأسرة لم تعد ترتبط بذلك الرأسمال الرمزي، أي الأب باعتباره نموذج الاحترام والوقار والطاعة، يستمد شرعيته من القاعدة الاجتماعية ومن المرجعية الدينية، لكن في الظروف الراهنة لم تعد هذه المرجعيات وحدها الملهمة، بل أصبحت هناك مرجعيات أخرى وخاصة الاقتصادية، بمعنى أن من يمتلك نفوذا ماليا داخل الأسرة يمكن أن يصبح ذو سلطة.

على أن تراجع سلطة الأب قد يصبح سلاحا ذو حدين، لأن هذا التراجع الذي سقناه أساسا في جانبه الايجابي باعتباره يخفف من سلوكات التسلط والقهر والتي لن تسهل عمل المدرسة التي تروم تربية الأطفال على الديموقراطية، لكنه قد يصبح سلاحا ذو حدين.

ذلك أنه في ضوء التغيرات والتحديات التي تواجه الأسرة المغربية ومن خلالها المجتمع، بدأت العديد من الظواهر الشاذة تتفشى بشكل خطير، ومنها بالخصوص تعاطي المخدرات التي تعد من أهم المشكلات التي تسبب خطرا كبيرا يهدد أمن المجتمع لما يترتب عليها من أضرار بالغة تصيب الجميع، فالأسرة التي يغيب فيها دور البيت وفقدان السلطة الأبوية بفقدان الأبوين أو أحدهما بالموت أو السجن أو المرض أو الطلاق أو تخليهما عن دورهما في تربية الطفل، كثيرا ما يؤدي إلي نتائج سيئة تهيئ للانحراف والإدمان والتشرد. (حالة: أطفال الفقر، أطفال الشوارع، خادمات البيوت، أطفال جانحين، أطفال عاملين).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *