الأزمة بالقول والفعل أخلاقية بامتياز عبد المغيث موحد

أصبح من الملموس لمس اليد؛ أن سراب المدنية المادي قد أعشى فراسة الكثير منا فأصابها بهزال فكري وسقم معرفي؛ وساهم إلى حد كبير في حجب تجلي الشقاء الذي باتت البشرية تصطلي بلهيبه، وتنحدر بفعل تأثيره المردي إلى الدرك الذي يفقد المرء في مستواه كل تصور سليم للقيم الإنسانية، فيعمل وهو مغمور في محيطه على الاستسلام بذلة للمسلمات المدخونة التي تربط بين أي تطور مدني وضرورته الحداثية؛ ضرورة ممارسة الإلحاد والانسلاخ عن أي التزام روحي من شأنه أن يبقي على الصلة المقدسة بين الإيمان والعمل، وبين متطلبات الروح ومقتضيات الجسد.

لقد أصيب العقل المسلم وهو يتبع سنن من قبله من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، أصيب وهو يعبر خط الواجهة لجحر الضب بالاغترار المادي، فأوكل حقوقه إلى العصابة التي انبهر بخوارقها في عالم المادة من صنع الطائرات والصواريخ ووطء أديم العرجون القديم، ومع هذا الانبهار صار يملك أو يتخيل أنه يملك من مبررات التبعية والتقليد الأعمى ما يستطيع أن يئد به الجهود المبذولة في اتجاه تحرير العقل المسلم والعودة به إلى الفطرة التي فطره الله عليها، وأن يتصدى بعدوانية لكل حركة مقاومة لتيار التغريب الجارف، وياليت أصحاب هذه العقول التابعة شاطروا العقل المتبوع في جانب ما يعلمه من ظاهر الحياة، ثم أخضعوا الإبداع المادي إلى ضوابط أخلاقية من شأنها منع أي إمكانية إفساد في الأرض بغير حق، كإمكانية تحويل الطائرة من أداة نقل إلى قاذفة قتل، وتحويل علوم الذرة من مسالك النفع إلى مهالك الردع، لكن هذه العقول التابعة وبكل أسف نراها لا تتقن إلا صناعة التهمة وإلحاقها وهي حامية التركيب بعرى الإيمان، فهي لا ترى في تخليق الحياة العامة وهيمنة الوازع الديني وتفعيل أدواة زجره إلا مجرد تسلط في مسعى تقويض حركة العلوم المادية، ومن تم الإتيان على نتائجها الحضارية ذات النفع المتعدي.
والواقع الذي ليس له دافع أن هذه التبعية المقيتة استفرغ روادها بادئ الأمر الجهد الجهيد في سبيل خلق مطابقة بين كهنوتية الكنيسة وحاكمية الإسلام، ليخلصوا مع رجاء الإجماع والاتفاق على أن أي دين هو أفيون للشعوب الراغبة في التحرر، وعلى هذا الواقع المجمع على بهتانه يفصل دين الإسلام دين النصيحة دين المعاملة دين الحكم المطلق باعتبار أن الله إله في السماء مألوه في الأرض، يفصل هذا الدين العظيم عن الحياة برمتها فتندلق حركة المجتمع المدني في منحى التحرر الفوضوي والانغماس اللاأخلاقي الذي يعود على الفرد والجماعة بما صرنا نراه ونتذوق علقمه ظلما وظلمة وقبحا وذمامة.
ومع أن إسلامنا العظيم لا يلغي حق العقل في الفهم والتنفيذ كما فعلت الكنيسة ذات ليل وهي تأكل أموال الناس بالباطل، وتحجر على عقولهم لتعيش الرذيلة في أبشع صورها؛ صور يؤثث أفنها التهتك البابوي والتسلط الأسقفي، ومع أن إسلامنا العظيم حمى سلطان العقل بسياج النص الذي منعه من التردي والانحدار ووقاه على بينة وبيان من استعباد الهوى الحائف، فإنه اليوم صار بين أهله معرة يتبرأ منه بنوه ويحاصر أحكامه ذووه، مسارعة في خيرات تقديمه قربانا باسم التطرف والإرهاب لنار العدو، التي كانت في أيام سوالف لا تتراءى ونار المسلم، لكنها اليوم نار على علم يهدى إلى موقدها عباد المادة وصناع الإفك ورواد الحداثة وخصوم الدين والأخلاق، أحباب الرذيلة أنداد العلمانية المتجبرة ببغي وبغاء.
وإننا على يقين وحكم ذهن جازم أن إسلامنا العظيم سينتصر كما انتصر عبر سيرورته التاريخية، فوقف أمام حملات التتار والصليبية الحاقدة، وحمى بوقوفه الأعزل المجتمع والوطن الذي كان يدين بعقيدته الإسلامية الطاهرة، فكيف لا ينتصر على هؤلاء الأصاغر الذين نراهم اليوم يتحركون في سر وعلانية، في غسق ونهارية، غايتهم الحيلولة بين هذا الدين وولوج حياة الناس، ولوج ضبط يليه عروج سمو وتفوق وغلبة؟
أصاغر قلنا سلفا يا ليتهم في حذوهم حاكوا تجارب ما يعلمه متبوعهم من مظاهر الحياة وتجليات الصناعة، عندها كنا نحمل الإنبهار والافتتان وحتى الانبطاح محامل المعذرة، أما والحال أن التقليد ملأ هامش تعهير الحياة عبر بناء المسارح ودور السينما والإنفاق بسخاء على أهل المغنى و العري والمجون، وتصنيف سيرة خبطهم بنجوم الزندقة على شاكلة ما هو متعارف عليه في عالم الفندقة، وإقامة سرادق المهرجانات المتفسخة التي تناسلت تناسل الفطر وصارت صكوك شكر حداثي يلي كل موسم فلاحة معطاء، بينما رفعت بيارق الشرك وشعائر الذبح لغير الله وطقوس الشعوذة والدجل وتعفير النواصي عند أعتاب الأضرحة المنتشرة انتشار الخلايا السرطانية في كل بادية من بوادي المغرب.
وعندما يفكر هذا الفصام النكد في شماعة يعلق عليها فشل مشاريعه الحداثية الماجنة فهو لا يجد أثمن ولا أليق من الإسلام، فيتحامل عليه باسم التطرف والإرهاب والظلامية، ويلصق بقضية الانتماء إليه كل مكروه وسلبية، لتتوارى الحقيقة خلف أكمة الاحتجاجات المراهقة التي تحركها السيالة “السبرنيتكية” لنوافذ الاحتجاج الحداثي؛ نوافذ الشبكة العنكبوتية، وتحتضنها الأيدي الغربية الناهبة بشراكة مع الأيدي المحلية السارقة، يقع كل هذا وأكثر بينما بالعمد تنصب اليوم منصات الموازين الخاسرة ليرقص على نغمات إيقاعاتها العالمية شباب الثورة الفيسبوكية، إيقاعات كانت ولا تزال تسبب لصحة المال العام نزيفا فياضا من ملايين دافعي ضرائب الشاي والسكر والزيت والنظافة.
لقد أخفق بنو علمان في مرحلة عريضة من تاريخ الدولة بشكل يدعو إلى كثير من الرثاء بالنظر إلى ما وصلنا إليه من انحدار مادي وتسفل روحي، فما عليهم إلا أن يستدبروا على استحياء، وأن يتواروا متأبطين فشلهم حتى يتسنى للشباب المؤمن على الحق والصدق إحداث تغيير سلس هادئ، يكون فيه الأسوة الأول ليس ماركس أو دوتكفيل وغيرهم كثير، بل يكون الأسوة فيه سيد الخلق الذي بنى المجتمع المكي في ظل غربة وضعف وحاجة على قواعد أخلاقية متينة.
واليوم حينما نواجه المرتشي، وسارق المال العام، والمتسلط بمنصبه، والغاش في صنعته، والخائن لأمانته، والظالم في محكمته، والمتهور في سياقته، فإننا نواجه جيلا راعنا يوحد بينهم عنصر عدم الأخلاق، وحينما نبني المصانع الضخمة، والمستشفيات الرفيعة، والمحاكم المكيفة، والطرق السيارة، ثم ندخل في مجال تدبيرها وتسييرها والإشراف عليها عقولا مخربة وضمائر ميتة، فإن الخراب سينتشر والحضارة ستنقبر، وتعود الأمور إلى سلبية ما قبل الصفر، حيث الأرقام ضخمة مهولة من ذوي العاهات وأصحاب البليات، الذين يقتاتون في محيط الفتن، ويشكرون كما تشكر الدابة في بيئة الخراب والبوار، نسأل الله السلامة والعافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *