فصام العلمانية وأبوَّة الإسلام عبد المغيث موحد

إن عتبة الانتساب الحق لا يمكن أن تطأ مقامها أقدام كيان مريض الغرائز؛ مضطرب الفكر؛ خرافي المعتقد؛ ممتثل للظنون؛ متبع للأهواء ومقتضيات الطباع المريضة؛ ذلك أن الإقرار بالانتساب صدقا شيء غير وصفه ومعرفته؛ وإسالة الحبر الإنشائي بمدح أشكاله المعاصرة ولوازمه المصلحية؛ والتشدق زورا بمكرمة الثبات على سبيله تحقيقا لمقتضياته؛ وتعليقا لمضاداته من نفاق وإفراط مداهنة.

إنها عين العتبة التي وطأها ذلك الصحابي الجليل فحملته على أن يجهر ببنوته لأب أحب أن يسميه في بيئة الغربة الأولى بعبارة جامعة مانعة (أبي الإسلام)..
إنها عين العتبة التي يكون عندها الانتساب ديدنه الأول التمرد على الباطل وزبده..
إنها عين العتبة التي يكون عندها الانتساب معناه الامتثال بكرامة؛ والتصرف بعدالة؛ والسير بعفاف وفضيلة..
إنها عين العتبة التي يرى في محيطها كل منتسب وهو ينوء بحمل همﱠ الدعوة إلى الله ويتذوق مع هذا الحمل مرارة خطورة ترك الاستنساخ العلماني يعربد أنى شاء وكيف أراد؛ طامحا عبر فتونة سخائمه تغيير كل شيء في الفكر والتراث؛ طامحا أن يجعل بيننا وبين ديننا بعد المشرقين؛ طامحا أن يطمس المعالم الدينية وذاكرتها التاريخية التي تعد الأساس لخلق البيئة السليمة المعافاة؛ والتي هي عبارة عن وحدة مصمتة حالية غير منقطعة عن ماضيها ومنفصلة عن إرثها النفيس بحيث تظل باحاتها حافظة لسجل أنفاس سلفها الصالح؛ فهي بهذا التواصل كالشجرة الباسقة ذات الجذور المطنبة في عمق مواد حياتها، بل هي كالإنسان في قضية الاسترسال والاتصال بين حلقات سيرورة حياته بحيث تجد بين الصبا والطفولة وبين الشباب والكهولة والشيخوخة عوامل اشتراك وتشابه فإذا ما حصل -شذوذا- نوع من الانفكاك والمباينة حصل لزاما نوع من الاختلاف والاضطراب المردي.
فأي انتساب ذاك الذي يجعلنا نفر ونستدبر ونتولى أمام كر وزحف السهام الوافدة التي باتت تقتحم علينا كل قلعة وتتسلل إلى كل حصن وتبتذل كل محرم ومقدس حتى اتسع الخرق وبعدت الشقة بين الواقع المنظور والواجب المسطور.
واقع تهارشت عليه باسم الحرية والعدالة والمساواة القوى اللائكية فحولت أركانه إلى مستنقع إباحية ومجون ساعية أيما سعي لنشر الجحود والفجور؛ وتعليم الناشئة المسلمة أسلوب السير في مناكب الأرض على غير هدى الله ساعدها على الظهور وتحقيق الندية تحلل المادة الإسلامية في جوف الأجيال المهجنة وتماهيها مع التيارات المستغربة.
وفي مثل هذه البيئة المريضة أشهر الكيان العلماني انسلاخه عن أدمة تاريخه ودثار عقيدته بل صارت له كامل الجرأة ليصدع من على منابره المشبوهة بعدائه لشريعة الإسلام وشعائره من نقاب وحجاب ولحية يتم هذا علانية وبعبارات طافحة تحقيرا لشريعة الأمة الخيرة وازدراء للانتماء بالنسب لا الكسب، ومن تم الاندماج الكامل مع حملة الغزو الثقافي المارق والتغريب الأجنبي الخانق.
ومن حقنا في حدود هذا التعرج والتمرج أن نستفسر بعمد وقصد طوية عن مآلات هذا المسخ الذي جاءت بداياته متشبعة بمشاريع خبيثة مراميها اجتثاث عرى الإيمان من الفطر الموحدة وزعزعة منظومة الأخلاق وضرب الفضيلة ونزعها من المعالم الحيوية للمجتمعات الإسلامية.
وإنها لا ظاهرة سمجة تلك التي نرى عليها كثير من رواد الحداثة والعلمانية وهم يتمسحون بالإسلام، في الوقت الذي نراهم عيانا لا يفوتون فرصة ولا يبخلون بجهد ولا يشحون بنفيس في محاولاتهم المسترسلة المفضوحة غايتهم القضاء على تعاليم هذا الدين العظيم.
وكم تمنينا لو أن هذه العلمانية المقيتة صدعت بارتدادها وكشف روادُها عن خبايا نفوسهم النافرة من ديننا وعظمته، لكان أن انحصر كرها وكرهم ودفن شرها وشرهم، ولكنها لعبة الانفصام النفاقي؛ لعبة تحريف معاني النصوص من أجل إماته مراد الله ورسوله من هذه النصوص.
وبعد التأبين يتسنى صرف النفوس الموحدة إلى محراب الخرافة وبوابة الإخلاد إلى الزائل من متاع الدنيا، ومن تم صرف هذه النفوس عن الارتباط بدينها والانتساب إلى قلعته الطيبة الطوباوية، ومن تم صرفها إلى الانقلاب عن تعاليمه والارتماء في أحضان الخصم المناوئ لتصير معاول هدم تعمل عملها الجبان من داخل بنياننا المحفوظ بحفظ الله لذكره الحكيم.
فلنتبين مواقع أقدامنا ومرامي سهامنا لنقطع الطريق على أهل المسخ الذين أفسد؛ الغزو الثقافي الوافد من شرق أوربا الصقيعي وغربها المتوسطي؛ عقولهم وتقاطعت مصالحهم بالتضاد مع شريعة الإسلام وشعائره فهيأت لهم ظروفهم النفسية والمادية مناخ الصراع.
وأنى لقوم أيديهم حافلة بسرقة المال العام وهدره؛ ولياليهم الحمراء الحبلى بالمغامرات الجنسية خارج الإطار الشرعي؛ وأمعاءهم المرقرقة بأنواع مستوردة من الشراب النجس؛ وجيوبهم الملاءى بالرشاوى والأتاوى التي ضاعت بفعل سلطانها حقوق العباد ورب العباد..
أنى لقوم هذه شاكلة نفوسهم الذبابية أن يقبلوا بشريعة نصت على قطع يد السارق وجلد ظهر الزاني والمعاقر ورجم المحصن الخاني..
أنى لقوم استعبدتهم أهواءهم فانساقوا لطباعهم المريضة أن يلبوا نادي صلاة إقامتها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وصوم عنوانه الإمساك عن الطيب؛ فما بال الخبيث الحرام، وحج يجردك عن المخيط لتطوف حول البيت العتيق بمذلة عز وفقر غنى لله جل جلاله..
أنى لأمثال هؤلاء من دعاة التحلل والميوعة أن يعيشوا طهر الإيمان الذي أقسم سيد الخلق على شرط تحقيق كماله، فأجمله بأن يكون هوى أحدنا تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
إذا كنا نحيا على هدي من الله في هذه الدار فإننا لن نحيا أطوارها إلا وقلوبنا متعلقة بعاقبة يوم المعاد؛ مع علمنا أن عيشنا وتعلقنا لا يرسي دعائمه إلا إيماننا الوثيق الذي تلتقي عراه في أخدنا بالكتاب، واتباعنا لهدي الصادق المصدوق تحقيقا للحياة الطيبة التي في ظلها لن نسمح لقافلة الفساد أن تجرنا إلى سيلها لنسير في وجهتها المارقة.
فليست هذه غايتنا ولن تكون في يوم غايتنا، أن نحيا على الدخيل تاركين زادنا الأصيل..
والعاقبة للمتقين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *