الاستشراق والنظام السياسي الإسلامي.. بين مظهر علمي ونهج متحيز إلياس الهاني

اختلف الباحثون في تحديد المراد من حركة الاستشراق، وتعاريفهم له تأخذ اتجاهات متعددة تبعا لموقعهم منه، فبينما يرى البعض أنه ميدان علمي من ميادين الدراسة والبحث كما نجد ذلك في قول المستشرق الألماني «رودي بارت»: «فنحن معشر المستشرقين، عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية، والعلوم الإسلامية، لا نقوم بها قط لكي نبرهن على ضِعَةِ العالم العربي الإسلامي، بل على العكس، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام، ومظاهره المختلفة (…) ونحن، بطبيعة الحال، لا نأخذ كل شيء ترويه المصادر على عواهنه، دون أن نعمل فيه النظر، بل نقيم وزنا، فحسب، لما يثبت أمام النقد التاريخي (…) ونحن، في هذا، نطبق على الإسلام وتاريخه، وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها، المعيار النقدي نفسه الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا، وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن»[1]، ويعتبره آخرون مؤسسة غربية ذات أهداف متعددة، باعتباره ظاهرة طبيعية تولدت عن الصراع بين الشرق والغرب، كما يتضح ذلك جليا عند كتابات جولدزيهر وشاخت وتوماس أرلوند وغيرهم.
فمن خلال استعراض نماذج من التعريفات لهذا المصطلح نجده لا يخرج عن الدلالة على ما بين الشرق والغرب، لذا يمكننا القول أن الاستشراق له مفهومان أحدهما عام؛ ويقصد به كل الدراسات التي تعرضت لحضارة العرب والمسلمين، وخاصة التي اتسمت بالدس والتشويه، ومفهوم خاص وأكاديمي وهو الدراسات العربية التي تناولت الشرق من كل جوانبه الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
لقد تناول المستشرقون جل العلوم الإسلامية بالدراسة والبحث والتي أضحت فيما بعد ملجأ العلمانيين في تكوينهم؛ فنجد بحوثا وكتابات عن القرآن والسنة والفقه والقانون واللغة العربية، لكن قل من تناول جانبا مهما وهو النظام السياسي الإسلامي، الذي سنقتصر على عرض مناهجهم في دراساتهم إياه باعتبارها الباب الذي يلج من خلاله العلمانيون لنفي وجود نظام سياسي إسلامي.
لقد وجد المستشرقون في النظام السياسي الإسلامي مرتعا خصبا لبث الشبهات، فانكبوا على دراسته كونه من الركائز الأساسية لدين الإسلام، والمراد بالنظام السياسي الإسلامي كل ما يتعلق بفن حكم الدولة والإدارة الإسلامية، ويشمل ذلك نظام الدولة وقانونها الأساسي، ونظام الحكم فيها ونظامها التشريعي على مستواه الداخلي وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية بمقوماتها وخصائصها، وهو ما اصطلح عليه قديما بالسياسة الشرعية.
فللنظام السياسي الإسلامي مقومات وأسس ومبادئ يقوم عليها، كمبدأ سيادة الشريعة، ومبدأ العدل، ومبدأ الشورى، ومبدأ الحرية، ومبدأ المساواة، وله خصائص منها سيادة الأخلاق ووحدة القيم الممارسة والشمولية وحراسة الدين والدعوة إليه وغيرها.
ويعد «توماس أرلوند» من أهم المستشرقين الذين تناولوا النظام السياسي الإسلامي من خلال المحاضرات التي ألقاها أمام طلابه والتي جمعت في كتابه «الخلافة»، يتضح من هذا الكتاب أن أرلوند قد نحا منحا، واتخذ مناهج لدراسته كان نتيجتها عدم وجود شيء يسير به شؤون الأمة من ذلك:
– المنهج الإسقاطي: فقد انتشرت الدعوات لدى المستشرقين بان الإسلام جاء لإقامة الدولة الثيوقراطية أو الدولة المدنية، أو القول بأن الدولة الإسلامية هي نسخة من الدولة الثيوقراطية التي عرفها الغرب بحكم الباباوات، فيسقطون ما عرفته أوروبا من أنظمة استبدادية نتيجة الحكم الثيوقراطي الذي يعرفونه عن النظام السياسي الإسلامي.
– منهج التشكيك: ويبدو هذا المنهج جليا في القول بأنه ليس للإسلام نظام سياسي أصيل، وإنما هو فكر مستورد، وما كان من العرب المسلمين سوى نقل هذه الدراسات، فيفرغون المنظومة السياسية للإسلام وينسبونها إلى غيرهم، مشككين في وجود شيء اسمه النظام السياسي للإسلام.
– منهج التأثير والتأثر: ويتجلى هذا المنهج بالقول أن معالم النظام السياسي الإسلامي ومقوماته مستمدة من النظام السياسي الغربي من تقرير لحقوق الإنسان وإعلان المساواة وصيانة حقوق المرأة والحرية وغيرها.
– منهج المقارنة: ويتضح ذلك من خلال المقارنة بين طبيعة اختلاف السلط في نظام الخلافة في العالم الإسلامي والبابوية في العالم المسيحي، وذلك بتسليط الضوء على مسالة الاختلاف بين الفكرين الإسلامي والمسيحي حول طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في كلا النظامين.
ولقد اعتمد توماس أرلوند في دراسته للنظام السياسي الإسلامي على مصدري الإسلام القرآن الكريم والسنة النبوية، فنجد أن اعتراضاته ونتائجه لا أساس لها من الصحة وتخميناته لا سند لها؛ حيث يجمع كل الآيات الواردة فيها لفظ «الخليفة» ليخلص في النهاية أنها جاءت بمعنى مجموعة من القبائل حلوا محل غيرهم في الأرض وليس الوظيفة الأساسية المحددة للخليفة!!
فهناك غياب الصلة بين القرآن والخلافة بوصفها منصبا وأن الصلة المفترضة اليوم هي من ابتكار المتأخرين!!
ونفس الشيء فعله مع لقب «الإمام» حيث حاول أن يستقصي لفظة الإمام في القرآن ليخرج بنتيجة مفادها نفي وجود هذا اللقب في القرآن بمعنى مرشد!!
وبين أنه على الرغم من أن لقب إمام كان يعد صفة رسمية لخليفة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن برأيه مفضلا لدى السنة كما هو الحال لدى الشيعة!!!
وفي دهاء ماكر استخرج من السنة ادعاء أن النسب القرشي شرط في وجود النظام السياسي الإسلامي ليضرب بذلك شرعية الخلافة العثمانية التي كانت تعيش آخر أيامها، وليؤكد على أنه من المستحيل وجود نظام سياسي إسلامي، وإن وجد فاستبداد واستعباد!! وهو ما حاول أن يثبته ويؤكد عليه باستدلاله بمجموعة من أحاديث طاعة ولي الأمر مقتصرا على أمر الطاعة دون إيراد شروطها.
فالناظر فيما وصل إليه توماس أرلوند يجد «الرغبة في التجريح والتشويه التي كثيرا ما حملت المستشرقين على التماس أسانيد واهية مرفوضة، يؤيدون بها ما يقررونه من نظريات. وهذا، بطبيعة الحال، أمر ليس من العلم في شيء، وإنما هو انحراف عن النهج العلمي السليم. وهذا الانحراف العلمي هو، للأسف، طابع الكثير من الدراسات الاستشراقية حول الإسلام (…) فالكثير من النظريات والآراء التي يقولون بها، مبنية على افتراضات لا أساس لها، وتخمينات لا سند لها»[2].
فمن خلال ما بيناه أعلاه نخلص إلى أن:
– الاستشراق عملية فكرية غربية تقوم بدراسات لمختلف العلوم الإسلامية وتتخذ طابع التجريح والتوهين في دراستها.
– للمستشرقين مناهج ساروا عليها وعملوا من خلالها على تشويه صورة الإسلام كالمنهج الاسقاطي والتشكيكي والتأثير والتأثر والمقارنة.
– النظام السياسي الإسلامي نظام قائم الذات له أسس ومعالم ومقومات تميزه على باقي الأنظمة.
– قد كان للمستشرقين كتابات ودراسات كأرلوند حاولت خلخلت النظام السياسي الإسلامي ونفي وجوده وقد كانت هذه الدراسات مرتعا خصبا للعلمانيين في خطابهم الفكري.
– لا تخرج دراسة المستشرق توماس أرلوند عن النظام السياسي الإسلامي عن منهجية انتقاء مصادر دون أخرى والاقتباس المخل بالمعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية منذ تيودور نولدكه لرودي بارت ص:10.
[2] – المكتبة الاسلاميةislamweb.net – لمازن بن صلاح مطبقاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *