أول التصورات الشائعة بين الطوائف الفكرية حول مقاصد الشريعة والموافقات والشاطبي ظنهم أن هذا العلم يؤدي إلى “التقليل من قيمة الجزئيات“، وبالتالي -كما يعبرون- تحرير الناس من مراعاة النصوص الجزئية، والاكتفاء بالاحتكام إلى كليات ومقاصد الشريعة العامة، بل يزيدون على ذلك برد كثير من النصوص الجزئية لأنها في نظرهم تخالف ما يرونه كلياً أو مقصداً من مقاصد وكليات الشريعة العامة، ولكن الشاطبي/المقاصدي -الذي يحتجون به- على خلاف ذلك، كما يقول الشاطبي في ضرورة مراعاة الجزئي والكلي كليهما:
(كما أن من أخذ بالجزئي معرضاً عن كليه فهو مخطئ، فكذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه) [3/174].
وأكد على ضرورة مراعاتهما كليهما فقال:
(الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع، لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك الجزئي كذلك أيضاً، فلا بد من اعتبارهما معاً في كل مسألة) [3/176].
وله من العبارات المتناثرة في ثنايا الكتاب في التأكيد على قيمة الجزئيات الكثير ومن ذلك:
(فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي) [2/96].
(الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها) [2/96].
(الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله) [2/96].
وأما في حالة تعارض الكلي والمقصد الشرعي العام مع نص جزئي، فليس صحيحاً أن الشاطبي/المقاصدي يشطب النص الجزئي ويلغيه مباشرة، بل يجمع بينهما كما هي طريقة أئمة الإسلام جميعاً، كما يقول رحمه الله:
(إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، [إذ كليّة] هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي) [3/176].
ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي يتضمنان “تضخيم شأن المصالح الدنيوية” لتخليص الخطاب الشرعية من مركزية النظرة الأخروية، وسبب وهمهم أنهم يقرؤون بعض العبارات المنقولة عن الشاطبي في أن الشريعة موضوعة لمصالح العباد، فيظنون أن المقصود هي المصالح المادية الدنيوية، بينما الشاطبي ليس هذا مقصوده، بل المصلحة عنده هي المصالح الدنيوية والأخروية، والمصالح الدنيوية ليست إلا وسيلة للمصالح الأخروية، كما أن المصدر في تعيين المصالح ليس ميولنا ورغباتنا الشخصية بل الشريعة هي التي تعين المصالح، كما يقول الشاطبي:
(المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة؛ إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور، أحدها: ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عباداً لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت) [2/63].
ولذلك فإن الشاطبي يؤكد في مواضع كثيرة من الموافقات بأن الأصل العام أن مصلحة حفظ الدين مقدمة على مصلحة حفظ الأموال أو النفس ونحوها، ومن أمثلة أقواله:
(واعتبار الدين مقدم على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع) [2/265].
(وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما) [2/511].
وهذه الهرمية التي يقررها الشاطبي استنبطها من استقراء الأحكام الشرعية كالجهاد الذي فيه قتل النفوس من أجل إعلاء كلمة الله، وقتل نفس المرتد من أجل مصلحة الدين، وقتال نفوس تاركي الزكاة من أجل الحفاظ على ظهور هذه الشعيرة، ونحو هذه التطبيقات الشرعية التي تتضمن أن مصلحة حفظ الدين أعظم من بقية المصالح، وقد أشار لذلك في مواضع كثيرة، وكان يكرر أن حفظ الدين أعظم من حفظ النفس، وحفظ النفس أعظم من حفظ المال، على هذا الترتيب، ومن ذلك مثلاً قوله:
(النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال؛ كان إحياء النفوس أولى. فإن عرض إحياؤها إماتة الدين؛ كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك) [2/64].
ومن تصوراتهم الشائعة ظنهم أن المقاصد والشاطبي يؤديان إلى توسيع “سلطة العقل” على حساب النصوص، بينما الشاطبي/المقاصدي يضع العقل في “مرتبة تبعية” للنصوص، كما يقول الشاطبي:
(إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرِّحه النقل) [1/125].
بل إن الشاطبي/المقاصدي يشكك في قدرة العقل على معرفة المصالح بالاستقلال عن النصوص الشرعية كما يقول:
(العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد القائل “إن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها” فذلك لا نزاع فيه) [2/78].
ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تدفع باتجاه “تضيق سلطة النصوص” على الحياة العامة، والتخلص مما يسمونه “المغالاة في تديين الحياة العامة”، بينما الشاطبي/المقاصدي يرى عكس ذلك كما يقول:
(ليس ثم مسكوت عنه بحال؛ بل هو إما منصوص، وإما مقيس على منصوص) [1/274].
ويقول أيضاً:
(لا عمل يُفرض، ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة، إفراداً وتركيباً، وهو معنى كونها عامة) [1/108].
ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تعني “فتح باب الاجتهاد” للجميع بمجرد النظر الشخصي الخاص في النصوص، بينما الشاطبي كان يدفع باتجاه تضييق باب الاجتهاد إلا لمن ملك أهلية دقيقة جداً، حتى أنه أوجب بلوغ مرتبة الاجتهاد في لغة العرب للمجتهد في الشريعة كما يقول:
(لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب) [5/57]
وتحدث عن هؤلاء الذين ينظرون في النصوص بلا دراسة لكلام العرب:
(فإن كثيراً من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير)[1/39].
ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تحرر المسلم المعاصر من “سلطة السلف“، بينما الشاطبي/المقاصدي يغالي في ترسيخ مرجعية السلف في مواضع كثيرة متناثرة في الموافقات سنلتقط منها هذه الشواهد:
(وليس ثم إلا صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ) [3/281].
(كل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه) [3/284].
(الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلو كان ثم فضل لكان الأولون أحق به) [3/280].
(فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف) [3/288].
وغيرها كثير من هذا النمط.