أن يركب المرء سيارة فارهة فهذا من المدنية، وأن يخفف السير عند حاجز ماء قذر حتى لا يتأذى الناس من رشه فهذا من الحضارة، ولعل الذين صنعوا الطائرة النفاثة لربط البقاع بالأصقاع قد خسروا اليوم رهان التشدق بمفاهيم التحضر الراقية وهم يرون كيف تحولت هذه الآلة المحلقة إلى قاذفة قنابل الموت وصواريخ الردى؟
وكيف تحول صانعها الأبيض الذي كان يوزع الحياة شفاهيا تحت شعارات براقة من حرية وعدل ومساواة إلى ذئب لأخيه الإنسان -على حد تعبير عالم الاجتماع جون جاك روسو-، حتى ساد التبذل، وانتشر الإسفاف، وعمّ الإخلاد إلى الترف في زوايا حادة من مشارق الأرض ومغاربها، وتسفلت مدنيته الآرية في نقيصة الاستبداد والطغيان والتكالب، فصار كل ما هو مدني حداثي يخدم المطامع الجاثمة على نفوس المستضعفين.
إن الحضارة هي على النقيض من هذا كله، إنها مدنية مبناها على معطى انتقائي تمييزي، إنه معطى الأخلاق، وعليه فلن نبالغ إذا قلنا أنه ما من مجتمع وتكتل بشري عاش هذه الحضارة باسمها وقوالب معانيها غير المجتمع الإسلامي، الذي أثث سقف بيته الحصين سيد المرسلين ومن بعده زرع الصحابة الذي أخرج شطأه الحضاري، الذي أغاض به الله الضالين والمغضوب عليهم الذين قارعوا كل إرسال وتنزيل بصوارم الإباء والاستكبار، وعصي العناد والإعراض..
إنه مجتمع نبوي سامي عاش الناس في ظل نواميسه المروءة حقا وصدقا، وتقاسم فيه الرجل والمرأة في سباق عادل ولحاق فاضل دروب الحياة، كل في مضماره يقلب تربة العيش ويبذر فيها بذور الفضائل والمحاسن، فيأتي موسم الحصاد تاريخ فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، أخرج الله من أرحام أجياله نسمة التوحيد ورعيل القيادة الذي دانت له زوايا الأرض بالعدل حقا والحرية فضلا والمساواة صدقا.
ولسنا في حاجة إلى الاسترسال في رسم تلك اللوحة التشكيلية من تاريخ أمتنا المشرق المجيد، فهذه اللوحة أنساخها في محاضن المتاحف التاريخية للخصم والمناوئ يرجع إليها بين الفينة والأخرى، لا ليشكر أو يذكر، إنما ليملأ خزان عدوانيته غيضا وبغضا وفوبيا متجددة، خشية أن يعود الخلف إلى ما كان عليه السلف من صحة وعافية، بلغ نشاطها أن كان أسلافنا يبيعون الأمن والطمأنينة للهاربين من الاصطلاء والتهارش، الذي مارسه شر من وطئ الحصى ومشى في مناكب الأرض من عباد الأوثان والصلبان والنيران، فيا عجبا بعد ذلك الكر العادل الشريف أن يقع هذا الفر والنزيف، الذي عاد معه صوت النصب والغصب، ليحذِّر باسم التطرف والعنف والإرهاب من إسلامنا الفاضل والمنتسبين إليه انتساب طهر وعفة ونقاء.
ولكن لا غرابة فهذا ديدن المتسلطين والجبابرة من الخصوم والمتربصين، وهذا قرآننا بين أيدينا يخبرنا أنه قديما انتصب فرعون رمز الطغيان والاستبداد، ليخطب في حضرة من ذبح أبناءهم واستحيا نساءهم محذرا من كليم الله موسى عليه السلام قائلا: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}، فهل كان سيدنا موسى مفسدا للحرث مهلكا للنسل يوما أو لحظة من لحظات دعوته الشريفة؟ حاشاه ثم حاشاه.
فماذا بعد هذا الزيف لو كان يعطى الناس بدعواهم؟ فحصل المحذور، وهدمت الصوامع والبيع والمساجد؛ وفضاء الذكر والصلاة..، ولكن لله سنن لا تخطئ سهامها، يدفع بها الله كل حين كيد الكائدين وغدر المتربصين ودعوى الأفاكين، ويهيئ لهذا الدفع مناخه الرصين الذي يخرج من رحمه الاستهلال الصادع، وتقع الوثبة الفاعلة التي تعيد الخلق وتخرجهم من قفص الزيف المدني إلى رحابة الفطرة الأولى، ولن تجد لسنة الله في خلقه تبديلا، وإننا وإن كنا نؤمن بهذا العود المحمود علم اليقين، فنراه عين اليقين، ونتذوق فيئه حق اليقين، فإننا بالمقابل نستغرب كيف للمرء أن يتحول عن هذه الفطرة متأثرا في حيدته بما وصل إليه العقل البشري من إبداع وخوارق في عالم المادة؟
متناسيا هذا الحيران أن العقل إن كان قد نجح في اكتشاف الذرة مثلا، فقد خسر رهان هذا الاكتشاف حينما دفعته نفسه الغضبية إلى تحطيم هذه الذرة، وخلق شقاق نكد بين أيونها وإلكتروناتها ليقدم لجشاعته مشروع القنبلة الايدروجينية، ولسنا من خلال هذا الطرح نريد أن نقرر أن بين الدين والعلم المادي فصام وخصومة، إذ هذا يعد فتحا لباب من أبواب الوهم، غير أننا نريد أن ننبه على أن بين الإسلام وهذا النوع من العلوم علاقة خصوص وعموم، ظل الدين من خلالها يدفع هذا العلم إلى الواجهة ويطوره وينميه ويمارس عليه نوعا من الرقابة المرشدة، حتى لا يتفلت عقال الفطرة، فيصادم خصائص الإنسانية الثمينة فيرديها في مراتع الهوى ومستنقعات التهور المميت.
وليس هذا من باب الرجم بالغيب، ولكنه الحق الذي توارى وراء أكمة التهم والتخرصات التي سعى أصحابها إلى أفقعة بياض هذا الدين ونوره الذي شع بريقه من جامعات الأندلس، ليضيء أركان أوروبا، وليحشر اليوم قسرا وعنوة في دائرة الصراع المفتعل بين الفكر الكنسي ورواد الثورة الصناعية في أوروبا، حتى صار بعد هذا الحشر إسلامنا العظيم ينعت في دارة الاستبداد الكنسي والاستعباد المادي بأفيون الشعوب، ونحن نسأل التاريخ عن عدد المصانع والمختبرات التي عمد إليها إسلامنا فحطمها أو شمع مكننتها أو أوصد أبوابها؟ والإجابة بلا مبالغة وبلا بخس، هي أن إسلامنا بريء من هذا الزيف وذاك الحيف.
إن إسلامنا حينما تبني المدنية الحديثة المصانع والمختبرات، فإنه بالمقابل يحميها من ولوج العقول المخربة والنفوس الموبوءة إلى مجال تدبيرها وفضاء إبداعها، فيأمر بالإتقان والمعروف، وينهى عن الغش والفحش، ويثمن حمل الأمانة، ويعطي الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، فيحفظ له الحقوق، ويبين له التزاماته اتجاه المستأجر، ويبني عقود المدنية على أبعاد حضارية، عنصر حيويتها حسن الخلق، وعظمة الشمائل التي مفضاها ولابد إلى النهضة والرقي، ولكن حينما تصير هذه المدنية مرادفا لكل ضار ومهلك، فيُُنسب إليها التفسخ والرعونة والعري والمجون والظلم والجور، واستنزاف المال العام في أودية تهدر فيها مقومات الإنسان الحقة، فإنه من الطبيعي والحال هكذا ألا يكتفي إسلامنا العظيم من البراءة منها ومن تمثلاتها الحائفة، بل يتعدى هذا إلى إلغائها ومحاولة غلها بقيود الشرع، وإحاطة هواها وتهورها وتخبطها في التيه بهالة من الحدود والتعازير، وإسلامنا بهذا يسعى إلى تقويمها حتى لا تميل، وإلى ترشيدها حتى لا تضل.
والعجيب أن هذا التقويم والترشيد لا ترضى عنه بعض الفئات الباغية التي تسللت إلى محراب التحضر عنوة ولواذا، فتبدأ في لوك أنباز ترمي بها إسلامنا من قبيل الرجعية والماضوية والوراء والظلامية والإرهاب والتطرف، رائمة الحيلولة بينه وبين الناس، ونحن لا نملك إلا أن نردد استنباطا، ونقول: “كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا زورا وبهتانا”، ثم نهمس في آذانهم المبتكة: “ستكتب شهادتكم وتسألون”.