جاء نبينا عليه الصلاة والسلام برسالة يمكن أن تعاديها الأهواء وترغب عنها الطباع المريضة، وتتصدى لها النفوس الموبوءة وترى البديل عنها في ميراث الآباء وتركة الإباء، فهل سمعنا يوما أن سير الركب النبوي قد نالت منه الأهواء، وعطلت كرّه الأدواء، وفرملت عجلة دورانه الشرعي شرور الحاسد إذا حسد؟ بل على العكس من هذا كله، نجد أن هذه الرسالة العصماء وتركتها من بعد التحاق النذير البشير بالرفيق الأعلى، قد قررت في الكل رأي الدين الذي هو محض حكم الله في خلقه وشؤونهم العامة والخاصة، فكان الإسلام نظاما ومنهجا وسلوكا، وعقيدة غمرت القلوب إيمانا بالله ربا ومألوها سبقا وسلفا، متلوا بالنوال المنشود الذي يتوج مجهود التبليغ وبث التنزيل بمقام التلقي والقبول الذي مفاده تخبيرا قول الله عزوجل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
وجدير بنا عند هذا المقام أن نعرج تعبدا على ذكر ما ميز أهل الامتثال من الرعيل الأول، وأنهم كانوا أهل إخلاص وفهم عن الله وإنصاف لخلقه، وحرص تشوق لمعرفة الحق، وشدة تذوق إلى شرف الدعوة إليه، فهم كانوا العلماء العاملين الأوفياء المخلصين والأمناء الصادقين، ولم يذكر عنهم التاريخ ولا حبرت عنهم أقلام الناقلين نقيصة تقدح في أمانتهم وتجرح عدالتهم، وأنهم ربما ولو احتمالا كانوا يداهنون في الحق، أو يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أو أنهم كانوا يقدمون العقل على النقل، أو المصلحة على الشرع، بل حتى خيارهم زمن الوأد لما تابوا وأنابوا كانوا خيارا حاموا حول هدى رسول الله فحكموها في أنفسهم، وتحاكموا إليها تسليما وانقيادا.
فلم يصلنا حتى بالضعيف والموضوع أنهم حادوا عن ركن من أركان هذا الدين، فاستعاضوا عن الشهادتين بالتزلف للغرنيق والوتن، واستبدلوا تحريم الصلاة وتحليلها بالمكاء والتصدية، وتسامحوا مع من منع زكاة الحق المعلوم، وأقاموا موائد الإفطار النهاري في الأيام المعدودات بشوارع المدينة ودروب مكة، وحولوا قبلة الحج فشدوا الرحال على كل ضامر إلى مزارات الفج العميق فتبركوا بالحفر والقبور والأشجار والأحجار؛ أبدا، وبيقين وحكم ذهن جازم، لم يحصل هذا ولم يحصل الخرق حتى يتسع، ولم نسمع يوما أن هذا الرعيل ومن سار على سبيله أنهم أباحوا ولغ خمرة، وأكل شوكة وجمرة وشراب ماء ساخن، وإباحة لهو حديث ماجن، أو مهادنة غائر ظالم ومداهنة ضلالة عالم جاهل.
فهذا الصديق تأتيه فاطمة رضي الله عنها مطالبة إياه بميراثها من أبيها صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الابتلاء الذي ثبته الله عز وجل فيه بعد محنة الردة ومنع الزكاة، فيمنعها من ذلك. وكيف يعطيها وهو الذي تلقى من سيد الخلق مشافهة وتخبيرا أن معشر الأنبياء لا يورثون ولا يقبلون صدقة.
ولما ذهبت عائشة رضي الله عنها إلى البصرة قبل وقعة الجمل، أتبعها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ابنه الحسن وعمار بن ياسر رضي الله عنهما لينصحا الناس، فكان من كلام عمار لأهل البصرة أن قال: “والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم هي؟”، وليس هذا بغريب ولا كبير على الذين تربوا في كنف الصادق المصدوق، الذي كان من أمره زمن الغربة الأولى أن قال له عتبة بن ربيعة بعد أن فرق جماعتهم، وسفه أحلامهم، وعاب آلهتهم، وكفر من مضى من آبائهم: “يا ابن أخي إن كنت تريد مالا جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالا”، فهل تنازل محمد صلى الله عليه وسلم، وآثر سلطان الدنيا على سلطان الدين؟
ولو شاء وما أيسر ذلك على النفس والجسد، لصار عليهم ملكا، وأسس جيشا وشرطة، وأقام سجونا فأخضعهم لسلطانه إبتداءا، ولسلطان لا إله إلا الله عطفا، لكن الاستقامة على وفق الأمر جعلت نبينا عليه الصلاة والسلام يستأذن من أبي الوليد بعد الفراغ من عرضه ووعده ليشنف أذنه بفصل الخطاب، تاليا على مسامعه آيات بينات من سورة فصلت.
فالمسألة إذا ليست مسألة دنيا ومصلحة لم شمل وجمع شتات، والتزلف لعشيرة وذوي قربى، ولكنها مسألة نقل متبوع وعقل تابع، وشرع حاكم ومصالح محكومة، وأدوات إصلاح ودعوة إلى الهدى مضبوطة بالاستقامة على وفق الأمر، فليس المجال مجال شعر، أو فن، أو كهانة، وقد قالها عتبة بن ربيعة عندما فشلت سفارته فشلا ذريعا على الرغم من فخامة المغريات، وكبير التنازلات: “إني سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بشعر ولا كهانة”، ولعل تجنب نبينا الإجابة بجوامع كلمه فيه، ما فيه من الإشارات إلى كون هذا الأمر العظيم، هو شأن يرجع فيه الفصل إلى رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
كما أن من لازمه أن كل دعوة تتعدى المضمون وتعبث في الأسلوب تكون خارج السياق، وهذه حقيقة يجب أن يعلمها الذين استعاضوا عن منبر رسول الله وأسلوب دعوته، إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ونقلوا تعسفا معركة الإصلاح إلى ساحة دور السينما، وخشبة المسارح، ورواق الروايات الكاذبة المتجرئة على حدود الله، والأغاني الحاملة زعما للمعاني السامية لروح الإنسانية، روح التعايش والتساكن، وأكيد أن هذا النقل التعسفي هو من جنس ما انبرى به النضر بن الحارثة لعتبة بن ربيعة وهو لا يزال في غمرة الانبهار مما سمعه من الذكر الحكيم عندما خاطبه قائلا: “لقد سحرك محمد يا أبا الوليد، بما جاءنا محمد؟ واللات ما محمد بأحسن حديثا منا”.
وإذا كان القرآن قد تصدى لدعوى النضر بقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، فالعهدة اليوم والرد ضرورة على الذين يدعون إلى الله ورسوله من معشر الدعاة الجدد، الذين يزيدون وينقصون ويخالفون عن أمره، ولا أدل على التطفيف والمخالفة؛ ما سأضعه بكل أمانة وصدق بين يدي كل غيور، مما كنت قد سمعت بعضا منه: حوار بين مذيعة وممثل مصري ممن ينعتون بنجوم الشباب، فقد قالت هذه المحاورة: “سمعنا أنك التزمت في الأيام السابقة، وكدت تعتزل التمثيل، أليس هذا من التشدد والغلو في الدين؟”. فأومأ برأسه: “أي نعم”، ثم أردفت سائلة إلى من يعود الفضل في رجوعك إلى عالم السينما والتمثيل إذا؟، فأجابها لقد كان الفضل في إنقاذي من الغلو والتشدد، ثم العودة إلى الفن، الداعية الكبير عمرو خالد”..
وكم كنت أود أن يطرح أدلة الجواز الدافعة إلى هذا العود والإنابة، ولكن الإجابة شابها الإجمال تحاشيا للاستفصال، وكما قال شيخ الإسلام بن تيمية: “فإذا وقع الاستفصال والاستفسار، انكشفت الأسرار، وتبين الليل من النهار”، نسأل الله العافية والمعافاة من كل زيغ وضلالة نحسبه من حسن العمل وما هو كذلك.