صور من العنف الممارس في مجتمعاتنا (العنف السيميائي) عبد القادر دغوتي

الأصل في المجتمع المسلم أن تقوم العلاقات بين أبنائه على أساس المودة والرحمة والتعاون والتناصر، بعيدا عن التباغض والتحاسد والتقاطع. وعلى هذا الأساس يكون البنيان المجتمعي أقوى وأمتن وأكثر مناعة ضد عوامل الهدم والانهيار. يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا”1.
غير أن هذا البنيان المتماسك يخضع لهزات عنيفة جراء ضربات العنف القوية التي يوجهها أبناء المجتمع المسلم بعضهم لبعض، في تجاوز سافر لقيم الإسلام المجتمعية التي تضمن للمجتمع أمنه واستقراره.
ولعل من أبرز مظاهر العنف التي تطفوا على سطح العلاقات الاجتماعية في مختلف اتجاهاتها؛ ما يمكن أن يسمى بالعنف السيميائي.
فما هو العنف السيميائي؟ وما صوره؟

أولا: معنى العنف السيميائي
أ- معنى العنف: يمكن أن نعرّف العنف بأنه فظاظة وخشونة في التصرف والسلوك، ناتجتان عن غلظة في القلب أو فساد واضطراب في النفس.
ب- معنى السيمياء: السيمياء أو السيماء في اللغة بمعنى العلامة والرمز والإشارة.
قال الراغب الاصفهاني: السيماء والسيمياء العلامة..2، وفي القاموس المحيط: السيمة والسيماء والسيمياء بكسرهن العلامة. وسوم الفرس جعل عليه سيمة3
وقد ورد ذكر السيما بمعنى العلامة، في القرآن الكريم، كما في قول الله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ}4 وفي قوله سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}5 وفي قوله عن الملائكة {مسومين}6 أي معلّمين…

ج – فالعنف السيميائي: هو كل علامة أو إشارة مؤذية للغير، تصدر عن صاحب نفس مريضة مضطربة.
أو هو ما تترجم إليه انفعالات الشر الكامنة في النفس المريضة، من إشارة مؤذية للغير بالعين أو باليد أو علامة ظاهرة على الوجه أو نحو ذلك..

ثانيا: من صور العنف السيميائي في مجتمعاتنا المسلمة
يتخذ العنف السيمائي الذي يمارسه المسلمون بعضهم ضد بعض صورا منها:
العنف بسيماء العين: ويتمثل في النظرات الحادة المؤذية التي تشي عن آفات متجذرة في النفس كالحقد والحسد والشماتة والكبر وغيرها..
ومن أمثلة هذا، ما أخبر به الحق سبحانه من عداوة كفار قريش وتعنيفهم للنبي عليه السلام، حتى كادوا أن يصرعوه ويهلكوه بنظراتهم الخبيثة التي تقذف شرا. قال الله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}7. ذكر ابن كثير8 أن في الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “العين حق”9.
ومن سيماء العين العنيفة والمؤذية: نظرات الغلاظ المتجبرين التي يقصدون بها ترهيب عباد الله وتخويفهم وتهديدهم بغير وجه حق.
ومن ذلك أيضا الغمز واللمز، ونظرات الانتقاص والاحتقار والاستهزاء والسخرية…
وقد نقل إلينا القرآن الكريم شيئا من صور هذا العنف الذي كان يمارسه مشركو قريش على الضعفاء من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال “إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ..”10 أي كانوا إذا مروا بضعفاء المسلمين يغمز بعضهم لبعض بعينه ، أو يشير بيده أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين.. بقصد إيقاع الانكسار في قلوبهم وإصابتهم بالخجل والربكة..
ولما كانت هذه السيماء بالعين فيها عنف وإيذاء، فإن الله سبحانه وتعالى توعد عليها بالويل والعذاب، فقال “ويل لكل همزة لمزة..”11 واللمزة المكثر من اللمز بالناس، واللماز هو ذلك الذي يعيب الناس وينال منهم بإشارات مؤذية بالحاجب والعين12.
وفي مقابل هذا الوعيد الشديد لكل متكبر فظ عنيف، بشّر الله سبحانه أهل الرفق واللين، الذين تشع أعينهم محبة ورحمة..
العنف بسيماء الوجه: ويندرج تحته كل إشارة بالوجه أو علامة ظاهرة عليه تحمل، معنى التكبر والاستعلاء والاستهزاء وإحساس الآخرين بالدونية، ونحو ذلك…
وهذا من صور العنف السيميائي الذي يصدر عن مرضى النفوس من المتكبرين، ليؤذوا به من هو دونهم مالا أو جاها.. من الفقراء والمستضعفين..
وقد أنكر القرآن هذا التصرف ونهى عنه، كما في سورة لقمان {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا…}13 أي لا تمل خدك للناس كبرا عليهم وإعجابا وتحقيرا لهم..
وحث في المقابل على كل سيماء مبشرة غير منفرة، تحمل معاني الرفق والأمن والسلام، مثل طلاقة الوجه والابتسامة عند لقاء الناس.. قال النبي الكريم عليه السلام: “لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”14، وقال: “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة”15..
ونظرا لما لهذه السيماء المبشرة من أثر طيب في تهدئة النفوس وتأليف القلوب، ونشر المحبة والسلام، فإن النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ما عرف بين الناس إلا مبتسما طليق الوجه. فعن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: “ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”16. وعن جرير قال: “ما حجبني النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم”17.
وكان عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لصحبه الكرام، فكانت سيماهم في وجوههم من أثر الرحمة والرفق واللين..فعن قتادة، قال: سئل ابن عمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل، وقال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا”18.

العنف بسيماء اليد: ويشمل حركة أو إشارة باليد يقصد بها فاعلها ترهيب الناس وتخويفهم بغير وجه حق. وقد عظّم نبي الرحمة هذا الأمر لما فيه من إذاية فقال عليه السلام: “من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه”19 بل إنه قد نهى عن ذلك حتى إن كان على سبيل الممازحة، قال عليه الصلاة والسلام: “لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار”20.

خاتمة
إن أي مجتمع رضي بأن يكون العنف -بمختلف صوره- عملة متداولة بين أبنائه، لدليل على إصابته بإفلاس قيمي حاد، لابد أن يفت في عضده ويوهن قوته ويضعف تماسكه ويعرضه للانهيار…
ولن يحمى المجتمع من هذا المآل الخطير إلا بتعزيز بورصة القيم المجتمعية بعملة الرفق واللين والرحمة، عن النبي صلى الله عيه وآله وسلم قال: “إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه”21.
ـــــــــــــــ
1- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، رقم الحديث 1670 .
2- المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني.
3- القاموس المحيط، للفيروز آبادي.
4- الرحمان:41.
5- الفتح:29.
6- آل عمران: 125.
7- القلم:51.
8- تفسير ابن كثير. 8/131.
9- البخاري ح: 5740.
10- المطففين:29.
11- الهمزة:1.
12- صفوة التفاسير.
13- لقمان:18.
14- مسلم:2626.
15- الترمذي:1956.
16- مشكاة المصابيح. 3/1342.
17- نفسه.
18- نفسه -باب الضحك- 3 /1343.
19- صحيح رياض الصالحين للإمام النووي، سليم الهلالي؛ ص:643.
20- نفسه.
21- مسلم: 2593.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *