..انظر إلى الخلط العبثي كما يقول الكاتب بين “فهم الذات” و”هدم الذات”، ثم انتبه إلى محاولة الخدش في الرموز، الذات الإلهية، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم..، الخدش في التاريخ وإعطاء إحساس بالفراغ الانتمائي، ثم الخدش في شخصية الملك الحالي محمد السادس= “حماية الملة والدين” لإفراغ المواطن من الربط الديني في المؤسسة الملكية، وفتح الطريق للمؤسسات العلمانية اللائكية اللادينية.
مازلنا مع عبثية الخط التحريري لمجلة “نيشان”، حيث سبق في المقال الأول أن تطرقنا إلى دراسة الكيفية التي تعالج من خلالها هذه المجلة كبريات المشاكل والمواضيع المتعلقة بدين وثقافة وسياسة المغاربة، وذلك عبر المحاورالتالية:
– بين عبثية مجلة “نيشان” وجدية جريدة “يدعوت أحرنوت”.
– “نيشان” ومراحل تغيير قيم المجتمع.
– العبثية في مفهوم النقل.
وفي الجزء التالي من هذا المقال نستكمل الدراسة:
العبثية في وضع الفرضيات
بقول المجلة: “..أن ملف النكت قد يساعد الناس على فهم ذواتهم..” ونحن نتساءل بالمنهج العلمي:
على أي أساس ثم وضع هذه الفرضية، فالفرضية لا بد أن تنطلق من منهاج علمي يؤسس لها، وإلا فنحن أمام العبثية العلمية.
من هم الناس الذين يستطيعون فهم ذواتهم وخاصة من خلال النكت، هل هو الرجل العادي، الذي لا يفهم حتى معنى فهم الذات، أو المثقف ذا مستوى عال، الذي من أجل أن يفهم ذاته من النكت يجب عليه أن يقوم ببحث متخصص في العلاقة بين الشخصية والنكت، وبحث متخصص آخر على معنى النكت وتأثيرها في العمليات العقلية والانفعالية، فهل ترون عبثا أبلغ من هذا العبث؟
ثم مَن هم أولائك الذين يربطون معنى النكث بإطار نفسي اجتماعي؟ ومن يستطيع ذلك؟
هذا هو العبث بالمفاهيم وهذا هو العبث بمضامين “استعمال” لفظ “الناس”.
خط تحرير “نيشان” القائم على عبث العابثين بالقيم والأخلاق وإني أتحدى “كسيكس” بإعطائي فكرة عن “التفاعل النفسي” بين ما كتبه وزميلته في هذا المقال، ومعرفته لذاتهما عبر الأسئلة التالية:
– أين يتجلى هذا التفاعل؟
– في أي نكته؟
– في أي مرحلة من تطورهما النفسي؟
– ما هو الرابط بين ما هو فكري وانفعالي، وتجليه على المستوى السلوكي؟
– ما هو الرابط اللاشعوري بين مضمون النكت وشكلها؟
– هل يتعامل مع النكتة من زاوية المتعة، أو من زاوية التنفيس عن الألم؟
– ما هو التفاعل المعرفي بين ذاته والنكتة؟
– ما التغيير العملي والمعرفي الذي طرأ عليه قبل كتابة النكتة وبعدها؟
و هكذا إن كانت فرضية “معرفة الذات” جادة فليجب على هذه الأسئلة، بل إني أرى وكما يقول عطية الويش في كتابه “واقعنا بين العالمانية وتصادم الحضارات”: “..أن هذا الخط التحريري لا يهدف إلى فهم ذواتنا، بل إلى تغييب الوعي بذواتنا الإسلامية.. ووأد أفكار النهوض بالحضارة الإسلامية.. وكانت قضية الرموز الدينية الإسلامية هي القطب الذي تتمحور حوله تلك الخطة..”اهـ.
فانظر إلى الخلط العبثي كما يقول الكاتب بين “فهم الذات” و”هدم الذات”، ثم انتبه إلى محاولة الخدش في الرموز، الذات الإلهية، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، شخصية الصحابة رضوان الله عليهم، ورمز إمارة المؤمنين في شخصية الملك الراحل، الخدش في التاريخ وإعطاء إحساس بالفراغ الانتمائي، ثم الخدش في شخصية الملك الحالي محمد السادس= “حماية الملة والدين” لإفراغ المواطن من الربط الديني في المؤسسة الملكية، وفتح الطريق للمؤسسات العلمانية اللائكية /اللادينية.
العبثية في الربط بين الانتماء إلى الأمة وتجاوز مقومات هذه الأمة..
إذ يقول “كسيكس” في معرض الدفاع عن ملفه: “نؤكد بكل قوة أننا مسلمون، نستنكر كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إقصائنا من الأمة..” وإذ به يعبث بالخطوط الحمراء التي تربط المسلم بإسلامه من حيث:
اختلال في احترامه لله عز وجل ولرسوله ولأصحابه. “لغو الحديث..”، “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه”، “لا تسبوا أصحابي”.
العبثية والمقدس
ما وقع فيه أصحاب “نيشان”، هو تلك العبثية التي تؤدي إلى الفصام النفسي من حيث محاولة التوفيق بين التحليل العلماني للفكر والثقافة والدين، وبين التحليل الفقهي للفكر والثقافة والدين، ولنفهم هذا الخلط نقدم بعض المرتكزات التي يقوم عليها الفكر العلماني/اللائيكي:
تجاوز كل مقدس: النظر إلى الله ورسوله من زاوية مادية صرفة، إذ يصبح التعامل مع المادي من زاوية كل شيء عادي. محو المقدس من الفكر اللائيكي يجر هؤلاء إلى عدم القدرة على استيعاب والتعامل مع ما هو مقدس، ومن ثم التجرؤ عليه، فلا قيمة لأي شيء لأن ليس هناك مقدس، ألهو بما أشاء وأقتل من أشاء!
أحيل القارئ إلى الفكر اللائيكي في كل من السلوكيات الفاشية: سلوكيات “هتلر” وسلوكيات “موسليني” وسلوكيات “بوش” وسلوكيات “إسرائيل”، كل هذه الدول لائيكية.
الخط التحريري لـ”نيشان” ومن على شاكلتها عندما يضرب المقدس يهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة “الغير”.
ففي إطار الحديث عن المقدس نأخذ على سبيل المثال مدينة القدس، فإذا تجاوزنا مفهوم المقدس فإنهم يتعاملون إذ ذاك مع هذه المدينة كأي بقعة أرضية يمكن التفاوض بشأنها بل التخلي عنها. فأنت حينما تتخلى على مقدساتك واحدة تلو الأخرى، يصبح من السهل عليك التهاون في كل المقدسات، من بينها التخلي عن القدس لفائدة الكيان الصهيوني، كأنها مدينة مثل باقي المدن، ولكن حينما تتعامل مع القدس على أساس أنها أرض مقدسة فإنك تموت من أجلها وتموت من أجلها الأجيال اللاحقة.
إن العدو يعلم أنه لا جدوى من التفاوض بل لا جدوى من قتل كل الفلسطينيين لأن القدس ليست فقط ملكا للفلسطينيين، ولكنها ملك لكل مسلم، ومن خلال سلوكيات مثل سلوكيات “نيشان” تصبح القدس مثل أي مكان آخر فبذلك تصبح من جهة ملكا للفلسطينيين، ومن جهة أخرى يكون من السهل طرح إمكانية التفاوض بشأنها، بل والتنازل عليها من أجل أكذوبة السلام.
من ثم وجب علينا أن نفهم سلوكيات الجرائد وسلوكيات بعض الحكام خارج إطاره الآني الضيق، والنظر إليه على المستوى الشمولي العام، انطلاقا مما يكتب في جرائدهم ومما يقال في برامجهم أو خطبهم.
المقدس هو مقدس لا يطرأ عليه تغير، والتعامل مع المقدس يستوجب قواعد الاحترام والطاعة والاستسلام الذي يشتق منه لفظ الإسلام.
تجاوز كل الأعراف الأخلاقية
الأخلاق عند “نيشان” تطورية وضعية، وغير مرتبطة بالكتاب المقدس، ومن هنا يأتي تجاوز القواعد القرآنية بتجاوز الاحترام والتأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة رضوا الله عليهم.
كما أن احترام الأعراف الأخلاقية من القواعد الإسلامية القرآنية من حيث أنها إلهية ربانية، وليست “طابوهات” موجودة ضد الإنسان، بل إن هذه “الطابوهات” هدفها بناء سليم للمجتمع. وفي احترامها عبادة لله وطاعته، لا تقربوا الزنا، لا تقربوا الخمر، لا تقربوا الفواحش، لا تقربوا لغو الحديث، لا تقربوا الربا..، كلها أوامر ربانية مرتبطة بالأخلاق والسلوكيات.
إن تحليل العلاقات الإنسانية من المبدأ الـ”درويني” الذي يعني تطور الإنسان من القرد، والنظر إلى الإنسان على أساس أنه قرد يعني حيوان أي هو قرد، وكل ما هو مرتبط بمفهوم “القرد” فهو لا شيء، يمكن إبادته، وللتذكير فقد قتل 60 مليون من الهنود الحمر على أيد الأمريكيين، وقتل أكثر من 10 ملايين من طرف الأوروبيين في إفريقيا، والتطاحن بين الأوربيين على أساس طائفي وعرقي أسفر عن قتل أكثر من 80 مليون فرد. وقتل الشيوعيون عبر العالم الإسلامي أكثر من 60 مليون مسلم، هذا وهو الإرهاب الحقيقي مقارنة مع ما قتل في جميع غزوات الرسول عليه السلام من الطرفين المسلمين وغيرهم حيث لم يتجاوز عدد القتلى على أبعد تقدير 1700 (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).
الالتزام بالدين كمنهج للحياة واجب شرعي على كل مسلم انطلاقا من قاعدتين أساسيتين في القرآن:
– قال تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”(الذاريات 56)، و”إلا” هنا أداة الحصر أي تحصر وجود الإنسان في عبادة الله، والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
– وقال سبحانه: “قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”(الأنعام 162)، النسك والحياة والموت كلها لله، فكيف يفصل الدين عن الحياة كيف يفصل الدين عن الدولة بل كيف يفصل الدين عن السياسة.
إن الإسلام يرفض مفهوم ربط الإنسان بالحيوان -القرد-، فالله عز وجل يكرم الإنسان بأن يربطه بآدم وحواء مباشرة وهذا التكريم يقتضي بالضرورة الامتناع عن إذاية الآخر.