حضارة ثمود في القرآن الكريم (الحلقة الثّانية) د: عمر خويا

  • مظاهر القوّة في حضارة ثمود:

 مقدّمة:

لا يخفى على أحد سحر القصّة وأثرها على نفوس البشر، فهي تنفعل بالمواقف وتتخيّل أنها تعيش بداخل الأحداث وهي في الحقيقة بعيدة عنها، وبالخصوص لمّا تكون جزءا من واقع معيش، ومصوغة بأسلوب يأسر القلوب ويمزج بين السّرد والتّنبيه إلى ضرورة الاعتبار؛ وهذا حال القصص القرآنيّ، تحكي وتصف بكلّ أمانة ما جرى، ولا تدعك تقف متفرّجا فقط ليس لك موقف من الشّخوص والأحداث، وإنّما تجعلك تأخذ موقعا على مسرح الأحداث وتظلّ توازن بين نفسك وبين أبطال القصّة؛ فتؤيّد وتعارض وتستنكر وتتعجّب.

والنّصّ القرآنيّ كثيرا ما يورد قصصا تاريخية واقعية مقصودة بأماكنها واشخاصها وأحداثها كقصص الأنبياء وقصص المكذّبين بالرّسالات وما أصابهم جرّاء التّكذيب، وهي قصص تذكر بأسماء أشخاصها وأماكنها وأحداثها على وجه التّحديد والحصر؛ كنوح وقومه وعاد وثمود وموسى وفرعون… ذلك كلّه لأنّ الإسلام يدرك هذا الميل الفطريّ إلى القصّة، ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب، فيستغلّها لتكون وسيلة من وسائل التّربية والتّقويم والتّوجيه[1]، من ذلك قصّة حضارة ثمود التي خلّدها كتاب الله المجيد كي تكون عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد.

 أوّلا: التّعريف بثمود

ثمود من الثّمد (بفتح الميم أو تسكينها) وهو الماء القليل[2]. وسمّوا به لقلة مائهم. وثمود أمّة عظيمة من العرب العاربة والذين كانوا قبل إسماعيل عليه السّلام، وهم أبناء ثمود بن جائر بن إرم بن سام بن نوح، ويلتقون مع عاد التي سبقتهم في “إرم”.

وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشّام، بالمكان المسمّى الآن “مدائن صالح”. وسمّيت سورة من القرآن الكريم باسم “الحجر”، وهو مكان نزل به النبيّ صلى الله عليه وسلم هو وجيشه في طريقهم إلى تبوك.

أمّا نبيّ ثمود المرسل إليهم فهو صالح بن عبيل بن آسف بن ماشج بن عبيل بن جائر بن ثمود، لذلك فهو أخوهم في النّسب والوطن، قال الله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ (الأعراف:73) وهو المرسل بعد هود عليهما السلام، كما كانت أمّته بعد أمّة عاد، قال الله سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ (الأعراف:74)[3].

 ثانيا: حضارة ثمود: آثار القوّة والتّمكين

  • القوّة العمرانية: قال الله تعالى مذكّرا ثمود بالنّعم: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف:74) وهذه تجلّيات لحضارة عمرانية قامت بعد عاد ونمت وعظمت واتسعت، وكان مبتدأها أنهم أسلموا لمّا اتّعضوا بما حلّ بعاد، لكن عندما طال عليهم الأمد ونعم عيشهم نسوا وقست قلوبهم فتحوّلوا إلى عبادة الأصنام[4].
    ووصفتهم الآية الكريمة أنّهم خلَفوا عادا وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها، وامتدّ سلطانهم خارج الحجر أيضا، فصاروا ممكّنين في الأرض محكّمين فيها[5]؛ يبنون في السّهول قصورا زاهية ودورا عالية بما حدقوا بإلهامه تعالى من فنون الصّناعة كضرب الأجرّ واللّبن والجصّ وهندسة البناء ودقّة النّجارة، وينحتون من الجبال بيوتا فارهين بما علّمهم من فنّ النّحت ومن القوّة والصّبر لفعل ذلك؛ هذه للسّكن في الشّتاء وتلك لسائر الفصول الأخرى[6].
  • القوّة الاقتصادية: دلّ ازدهار العمران على قوّة الاقتصاد وحيوية ثمود في تسيير أمور دنياهم بما يحقّق الرّفاه والدّعة المادّية. وما أصابهم من نعمة هو فضل من الله، قال عزّ وجلّ فيهم: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:61) فهو سبحانه خلقهم من الأرض التي لهم منها منافع تناسب نعمة إنشائهم منها، فلآجل منافعهم في الأرض قُيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها واستعمرهم فيها بأن ذلّلها لهم؛ فجعلوها عامرة بالبناء والغرس والزّرع[7].

فقد كان منهم زرّاع وصنّاع وبنّاءون ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ (الشّعراء:146-148)، وهم يعيشون في نعمة الأمن، لتوفّرهم على ما يستلزمه من قوّة ونظام يحفظ الاستقرار، ورفاهية العيش لتمكّنهم من وسائله المادّية بحيث زادت حاجاتهم عن الضّروريّ وبلغت مرتبة التّحسينيّ والكماليّ، فتفنّنوا فيه وانشغلوا به.

إنّ الآيات القرآنية التي تذكر ثمود هي على قلّتها واختصارها تعبّر عن حضارة عظيمة قوامها القوّة المادّية والبدنية، والشّاهد عليها هو رفاهة العمران واتساعه وسعة العيش ورغادته؛ وهذا فضل كبير من الله تعالى عليهم يستوجب شكر المنعم والإذعان لأمره.
———————————–
[1] – محمّد قطب. منهج التّربية الإسلامية، بيروت: دار الشروق، 1992م، ج1، ص193.

[2] – ابن منظور. لسان العرب، بيروت: دار صادر: ط1، دت، ج3، ص105.

[3] – محمد الطاهر بن عاشور. التحرير والتّنوير، تونس: دار سحنون، ج8، ص216.

[4] – محمد الطاهر بن عاشور. التّحرير والتّنوير، ج8، ص216.

[5] – سيّد قطب. في ظلال القرآن، بيروت- القاهرة: دار الشروق، 1982م، ج8، ص1313.

[6] – محمّد رشيد رضا. تفسير المنار، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، 1990م، ج8، ص448.

[7] – محمّد الطّاهر بن عاشور. التّحرير والتّنوير، ج12، ص108.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *