مَنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة الفصل الأول: مناخ نشأتها في أوروبا* يتبع

ومنذ ذلك الحين نشط بالدعوة إلى المسيحية (النصرانية) معلناً أن عيسى هو ابن الهب، حتى صار المعلم الأول في المسيحية، وداعيتها النشيط، وأخذ ينشر أنه يتلقى التعاليم المسيحية إلهاماً، ويستر بهذه الدعوى ما يعلمه الناس عنه من أنه لم يكن من تلاميذ المسيح، ولم يجتمع به، ولم يسمع منه، ويفتح لنفسه بهذه الدعوى الكاذبة مجال التلاعب بأصول الدين، والتحريف فيه وفق مخطط يهودي لكل ما ليس بيهودي، ولو كان منزلاً من عند الله.

وصار هذا الرجل اليهودي في تاريخ المسيحية أحد الرسل السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقاد النصارى بعد رفع المسيح، وأُلهموا بالتبشير بالمسيحية، كما ألهموا مبادئها، ويسمي النصارى هؤلاء السبعين رسلاً، أي: رسلاً للتبشير بالمسيحية في الأقطار.
وتفاقم تأثير “بولس” حتى صار معلماً لـ”مرقس” أحد كتاب الأناجيل الأربعة، إذ لازمه ملازمة التلميذ لأستاذه، وصار معلماً لـ”لوقا” أحد كتاب الأناجيل الأربعة أيضاً، قالوا: وكان “لوقا” التلميذ الحبيب والرفيق الملازم لـ”بولس” وليس هو من أصل يهودي.
وفكرة أن عيسى “ابن الله” لم تكن قد عرفت من قبل “بولس”. ولكن بعد أن دخل المسيحية منافقاً، وأحل نفسه منها في مركز المعلم الأول الذي يتلقى تعاليم الدين إلهاماً، أخذ يطوف في الأقاليم يبشر بالمسيحية الجديدة، ضمن خطة، فيها دهاء كبير، فيلقي الخطب، وينشئ الرسائل، حتى كانت رسائله هي الرسائل التعليمية، بما حوت من مبادئ اعتقادية وشرائع عملية.
قالوا: وقد قُتل في اضطهادات “نيرون” سنة (66 أو 67م).
وبهذه الخطة الماكرة استطاع هذا الرجل أن يحرف في جوهر الديانة المسيحية، دون أن يستطيع أحدٌ معارضته، لأنه زعم لهم أنه يتلقى التعاليم من المسيح تلقياً إلهامياً وروحياً، وصدقوه في ذلك، وأدخل في المسيحية ما أدخل، وحرف فيها ما حرف، وكاد دين الله أيما كيد.

2- نشأة الكاثوليكية:
بعد أن أدخل اليهودي “شاول=بولس” بمكره الخبيث على الديانة النصرانية فكرة تأليه عيسى عليه السلام وأنه ابن الله، لم يسيطر هذا التحريف على عقائد كل النصارى، بل اقتصر على طائفة قليلة منهم، أما الكثرة الكاثرة منهم فقد كانوا موحدين، يؤمنون بأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم.
ولكن دعاة النصرانية بعد أن رفع الله عيسى إليه، لم يستطيعوا أن يجاهروا بدعوتهم، واقتصر عملهم على الدعوة السرية خوفاً من الدولة الرومانية الوثنية، التي خافت على سلطانها منهم فكانت في كثير من الأحيان تضطهد أتباع عيسى عليه السلام، وكل من ينتمي إلى المسيحية، ولجأ المسيحيون إلى بناء الأديرة والصوامع في الجبال والمواطن النائية، ليعبدوا فيها ربهم، وفق ما يفهمون من دينهم، وحين يخف الضغط عليهم وتكف الدولة عن اضطهادهم ينشطون في بناء الكنائس في المدن.
وبسبب النشاط السري للدعوة على امتداد الإمبراطورية الرومانية لم يظهر للإنجيل الرباني الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام أثر مادي يوثق به، لقد فقد منذ العصور الأولى للديانة النصرانية، كما حقق ذلك العلماء الباحثون، ويجد القارئ في إنجيل “متى” وإنجيل “مرقس” وبعض رسائل “بولس=شاول” فقرات تشير إليه….
إن هذا الاضطهاد قد جعل المسيحيين في هذه الأحقاب يستخفون بدعوتهم، ويفقدون كثيراً من كتبهم، ويجعل ديانتهم عرضة للضياع والتحريف، لا سيما ما كان من قِبَلِ أعدائهم اليهود الذين كانوا يدخلون في المسيحية نفاقاً.
وبسبب الاستخفاء والسرية ودسائس المنافقين من يهود وغيرهم، وجهل كثير من المنتمين إلى المسيحية، انقسم المسيحيون إلى طوائف متعددة، وفرق متباينة في مذاهبها الاعتقادية. فمنهم الموحدون، ومنهم من اعتقدوا ألوهية المسيح عيسى، وآخرون اعتقدوا أن المسيح ابن الله، ومنهم من لفق فكرة الأقانيم الثلاثة: “الأب والابن وروح القدس” وجعلها إلهاً واحداً. إلى غير ذلك من معتقدات، ولكن ظروف الاضطهاد الذي كان ينزل بهم جميعاً لم يسمح لطوائفهم بأن تتصارع فيما بينها تصارعاً سافراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب “كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة” للشيخ الدكتور عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني (ج1/ص: 13-15).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *