أرشيف التاريخ البشري حافل بالكثير من التجارب الحضارية والمدنية بحسب سياقها التاريخي، فالمدنية لا تقاس بما بعدها من تطورات بل بظرفها التاريخي والإطار المعرفي الحاكم للحظتها الزمنية، فالإبداع المدني حكم نسبي يكتسب وزنه من حجم المسافة التي يقطعها في لحظة تاريخيةٍ ما، وسواء كانت قراءتنا لتاريخ الحضارات قراءة خطية أم قراءة قطائعية فإنه سيظل السابق شرطاً للوجود التاريخي للاحق بشكل يكشفه التسلسل التراتبي للأسئلة وإجاباتها.
وبهذا الاعتبار فإن المؤرخين الموسوعيين سجلوا لحظات التراكم المدني في الحضارات السابقة، كالحضارة السومرية والإغريقية والرومانية والمصرية والفارسية والهندية والصينية وانتهاء بالحضارة الغربية الحديثة، ورصدوا ما فيها من الفلسفة والمنطق والفنون والعمارة والنقوش وغيرها.
ولا زالت بعض آثار تلك الحضارات وعجائبها شاخصة اليوم في المتاحف العالمية والمشاهد السياحية، بل إن بعض نظرياتها تدرس إلى اليوم في العلوم الحديثة أو هي كالمسلمات التحتية لنظريات أخرى، ولذلك لا تكاد تجد علماً من العلوم المعاصرة إلا ويدرس في المدخل إليه جذوره في الحضارات السابقة، وفتوحه الجوهرية التي أفضت إلى تطوره الحديث، ولا سيما الربط بالحضارة اليونانية لتميزها العقلي من جهة وللانحيازات الغربية إليها من جهة أخرى.
وفي الواقع أن بعض الشباب المسلم لازال يتساءل بحرقة: ما الموقف الشرعي المنشود إزاء الحضارة المعاصرة؟ وما الجواب الحاسم تجاه هذه الإشكالية؟
والحقيقة أن من تأمل وتدبر صادقاً متجرداً تعامل الأنبياء مع المنجزات الحضارية ومخزون العلوم والفنون المدنية في عصورهم انكشف له منهج التعامل الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لنا في موقفنا تجاه الحضارة المعاصرة، وهذا الموضع تسكب عنده العبرات، وهو كافٍ بذاته للدلالة على المقصود، ويغني عن كل تفاصيل هذه المقالة برمتها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم: الرومانية والفارسية والهندية والصينية، فالأولى امتدت لأوروبا والثانية حاضرة في الشرق الأدنى، والأخريان شبه معزولتين، وكانت معاهد العلوم فيها شامخة، فضلاً عن مخزون حضاري متراكم من الحضارة الإغريقية والمصرية.
بل إن العلوم المدنية قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم بلغت شأواً عالياً في دقائق المعقولات كقوانين العقل الجوهرية كقانون الهوية والتناقض والثالث المرفوع، ونظرية الدولة وتقسيم أشكال اسناد السلطة، ودقائق الهندسة وحساب الدوال الرياضية، وفنون العمارة والمسرح والشعر والأدب، وأصول الطب، والمسافات الفلكية، وغيرها كثير وإنما هذه نماذج تكشف مستويات البحث المدني.
ومع ذلك كله فإن الله سبحانه وتعالى لما بعث نبيه في جزيرة العرب لم يبعثه ليقول للناس: يا معشر العرب أنتم تعانون من التخلف المدني ويجب عليكم أن تتجاوزوا جفوة عروبتكم وتتعلموا من الأمم المتقدمة، ولم يقل لهم: يجب عليكم أولاً أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق والطب والفلك والفلسفة ونحوها ثم تدعوا الناس، ولم يقل لهم: اعرفوا قدر أنفسكم أمام الحضارات الأخرى، ولم يقل لهم: يجب أن تشاركوا الأسرة الدولية في سعادة الجنس الإنساني عبر الإبداع الابستمولوجي!
بل إن الله أخبر نبيه بعكس ذلك تماماً، فقد أخبر نبيه عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات التي عاصرت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفها القرآن بالضلال بكل ما تضمنته قوتهم وعلومهم وفنونهم ومدنيتهم، بل وأخبرنا تعالى أنه يبغضهم ويمقتهم ويكرههم سبحانه وتعالى، سواء كانوا أدباء العرب، أم فلاسفة أثينا، أم أطباء الصين، أم حكماء الهند، أم غيرهم.
كما روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:
«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك».
فمع كل ما يوجد على هذه الأرض من العلوم المدنية والفلاسفة والأدباء فإنهم لا وزن لهم في ميزان الله سبحانه وتعالى سواء في ذلك عربهم وعجمهم، ولم يستثن إلا طائفة قليلة من الناس بسبب ما كان لديهم من بقايا النبوات وبعض من أثارة الوحي، فبقايا النبوات وما تضمنته من العلوم والمعارف الإلهية هي نوافذ التنوير الحقيقي في الأرض، وليس التنوير هو الإغراق الفلسفي والمدني، وشاهدُ هذه الخطبة النبوية في كتاب الله قوله تعالى:
{كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]
فحَكم الله تعالى على كل البشرية قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم بأنها في “ظلمات” وأن التنوير الذي تحتاجه هو “نور الوحي” كما يقول تعالى في موضع آخر:
{هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} [الحديد:9]
وأكد تعالى في موضع آخر أن التوير الحقيقي هو نور الوحي كما قال تعالى:
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16]
وسيبقى من أعرض عن هذا الوحي مرتكساً في ظلماته مهما أوتي من العلوم المدنية، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]
والى هذا التنوير المستمد من الوحي أشار الامام ابن تيمية في قوله: (وعند المسلمين من “العلوم الإلهية” الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نورا وهدى) الفتاوى 2/84.
فتأمل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم السابقة كيف نفخ في أصحابه الشموخ بـ”العلوم الإلهية” فوق المدنيات الصغيرة بالنسبة لجلال المعرفة الإلهية، ونبه أصحابه إلى التنوير الحقيقي وهو نور الوحي، وربى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة يحتاجونكم أضعاف ما تحتاجونهم، فهم إنما يملكون الوسائل وأنتم تعرفون الغايات، وشتان بين منزلة الوسيلة والغاية.
بل إن من طالع موسوعة “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” للمؤرخ العراقي الشهير جواد علي (1987م) والتي صنفها في زهاء عشرة مجلدات، ورأى ما كان في الجزيرة العربية من ألوان الآداب والفنون والحكمة العقلية ثم قارنها بتقييم القرآن لهذه “الحالة العربية” قبل البعثة فسيعلم يقيناً منزلة مظاهر الدنيا وعلومها وفنونها ومدنيتها في ميزان الله، فمع كل ما كشفته تلك الموسوعة التاريخية المذهلة من إبداع عقلي وأدبي عند العرب فإن الله سبحانه وتعالى يصف الواقع العربي بالضلال المبين كما يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْقَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
يصفهم بذلك برغم أن فيهم الأدباء والشعراء والخطباء والفروسية وأخلاقيات المروءة وكرم الضيافة، بل كان فيهم حكماء تناقل الناس حكمتهم إلى يومنا هذا كقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وغيرهم.
بل إن ما يراه العرب قامة الإبداع الفني وصاحب أهم الروائع الأدبية يصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: «امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار» خرجه أحمد من حديث أبي هريرة.
وهذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية والفنية قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم ليس ذماً لتلك المنجزات لذاتها، وإنما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية، فلم يصلوا إلى الرقي والسمو الحقيقي وهو مرتبة العبودية، وإنما بقوا في حضيض المنافسة الدنيوية.
فيالله العجب.. ما أتفه علوم الدنيا وقوتها في ميزان الله سبحانه وتعالى بالنسبة لمضامين الوحي.
والحقيقة أن هذا الموقف النبوي من أدق ما يبين أن الانتفاع بما لدى الغير لا يقتضي الانبهار بهم، وأن الذم لواقعهم لا يتعارض مع الاستفادة من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وسنحاول إيضاح ذلك في فقرة لاحقة.
والمقصود هاهنا أن من تأمل هذا الموضع ونظائره انكشف له منهج التعامل الذي يحبه الله ويريده من المسلم إزاء الحضارات الأخرى، وهذا المنهج بكل اختصار هو: أن ينتفع بما لديها مما يعزز غايته كما انتفع النبي وأصحابه، لكن لا يقع في تعظيمها والانبهار بها مع ضلالها عن الإسلام بل يعي تخلفها وانحطاطها وظلاميتها كما وعى ذلك النبي وأصحابه، وحاجتها للتنوير الحقيقي الذي لا يكون إلا بانشراح الصدر بهذا الإسلام كما قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].
بل إنه لا تخلو أمة من الأمم التي بعث الله إليها رسله من الإبداع الدنيوي في أحد فنون المدنية، ومع ذلك كله فقد بعث الله الأنبياء ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، والقارئ للحظات النبوات في القرآن يشاهد دوماً كيف أن القرآن يصور الأمم بأنهم في الضلال والظلمات والانحطاط برغم قوتهم وإمكانياتهم ومظاهر المادية التي بيدهم، ويؤكد أنبياؤهم لهم حاجتهم إلى أنوار الوحي.
ومن دقق النظر في لحظات ومشاهد بعث الرسل والأنبياء إلى الأمم فإنه سيتضح له لازم خطير يلزم الرؤية التي أخذ بها غلاة الخطاب المدني، فإذا كانت “المدنية المادية” هي الأولوية الراقية فإن هذا يلزم عليه أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل والأنبياء بالقضايا الهامشية والثانوية ولم يرسلهم بالشؤون العظيمة! فأي إزراء بالرسل أكثر من ذلك؟!
والواقع أنه إذا كان أحكم الحاكمين إنما اصطفى هؤلاء الرسل والأنبياء وفضلهم على العالمين وجعلهم نماذج السمو والشرف فوق الإنسانية جمعاء فإن هذا يقتضي أنه أرسلهم بأهم المطالب، وأن أهم المطالب إنما تستخلص من مشروعاتهم التغييرية.
وهذا اللازم الخطير يتفاوت غلاة المدنية في موقفهم تجاهه، فبعضهم لا يتفطن له أصلاً، وهذا كثير في من يطلق أقوالاً لا يتفطن للوازمها، وقد أشار المحققون إلى كثير من ذلك، كما قال الإمام ابن تيمية: (الشعور مراتب، وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه، ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض) درء التعارض 10/121.
وبعضهم قد يتفطن لهذا اللازم لكنه يتأوله ويحاول أن يجد له المخارج، كما قال الإمام ابن تيمية: (يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها، ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها، أو لا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم، أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم) الفتاوى 35/288.
فبعضهم إذا تفطن لهذا اللازم يتأوله فيقول إن الأنبياء “حالة خاصة” لا يجوز القياس عليها، أو أن الأنبياء مسددون من الله بخلافنا نحن، أو أن الأنبياء لهم ظروفهم التاريخية ونحو هذه التسويغات، فهذا يسد باب الاقتداء من أصله، ويلغي وظيفة النبوة أصلاً، بل مؤداه أنه لا معنى لقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ثمرة من تتبع أحواله، مع أن الله تعالى يقول عن الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
وبعض غلاة المدنية يتفطن لهذا اللازم ويلتزمه -نسأل الله العافية- فيشير في ثنايا عباراته إلى أن البشرية لم تأت بشيء قبل هذه الحضارة المعاصرة، وأن الناس كانوا في ظلام وتخلف وانحطاط وهمجية وأساطير قبل هذا النموذج الإنساني الفريد، وأن المصلحين قبل هذه المعجزة الحضارية المعاصرة لم ينجحوا في صناعة الحياة الراقية المستنيرة كما نشاهد اليوم.
ومن تأمل أمثال هذه المقالات والأفكار تأكد له أن “الغلو المدني ينبوع الانحراف الثقافي”، وأن المغالاة في قضية الحضارة المادية هي المسؤول الأول عن هذا الخلل الكارثي.