أصل الفساد وبدؤه
لما سيطر الاحتلال على معظم الدول العربية والإسلامية وأحكم التحكم في جل مؤسساتها، اتجهت طائفة منه إلى دراسة علوم المسلمين وبلغتهم وخاصة ما له تعلق بدينهم قرآنا وسنة، بحثا عما كان سببا في ازدهار هذه الأمة مما لا تستطيعه غيرها من الأمم، ومنه إلى حجب هذا السر عنهم الذي هو نور الوحي.
فاتجه المستشرقون ممن درسوا علوم المسلمين تتبعا لآثارهم ومؤلفاتهم، فتبينوا أن قوتهم من الوحي الذي أنزل فيهم والذي أخرجهم من قبائل تعيش على هامش الحضارة لا تملك غير الشعر وفن الخطاب، إلى أمة عظيمة تعلم كل الناس معنى الحضارة ومعنى الوجود، ومن ثم قصدوا -أي المحتلون مع أئمة الاستشراق- إلى تقطيع ما بقي من الأمة واستغلال ما به يدركون نور الوحي من لغة خطاب الشرع وما يتبعها إذ هي “الجزء المشترك من كيان الأمة، وهي الوطن المعنوي الواحد لحركة اللسان المعبرة عن حركة الفكر والنفس والوجدان، وهي في هذا تشبه حدود الأرض التي تحوي داخل محيطها الوطن المادي لحركة جسم كل فرد من أفراد الأمة، إذ يعبر بذلك عن مطالبها النفسية والفكرية والوجدانية، وعن آماله وتطلعاته لنفسه وأهله وذرياته وأمته”7.
فكيف إذن نتخلى -بزعم سفاهة سافه- عن النور الذي يربطنا بالسماء ويشعرنا بالوجود ويبني فينا الإنسان الحي؟
فهذه الدعاوى الجاهلة البئيسة التي تروم إخراج لغة الوحي، إنما تقصد في الأساس وقطعا قتل معاني الإنسانية في الإنسان التي بها يدرك ويتنفس وينظر إلى السماء، وكأن بهذا القطيع من الرويبضة لما فقد نفسه وقطع الصلة بالسماء وأن خضع وانخدع للأرض اشتغالا بالفساد والإفساد قال: لم لا نسحب الجهل والموت على الكل فنكون في الهلاك سواء.
ولذلك انطلق لتقطيع جسم لغة الوحي ووسمها بما ليس فيها، وجعلها من أسباب ما هو فيه من الجهل والتخلف، ثم بعد ذلك يستأنس ليعتقد أم لغة المحتل هي الخلاص. وكم توسلت لغة المحتل بعلوم أهل الإسلام ولغتهم ولازالت تتوسل في خفاء؟ ولكن جهل القطيع وتحقق معنى الرويبضة بالتمام حال دون إدراك ذلك أو تعقله.
قلت: وهذه الدعوى المستحدثة تارة القديمة أصلا ومنهجا، كانت بدايتها بما هي عليه الآن أو أشد أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، إذ من خلال تاريخ حركة التحويل عن الفصحى، كان أول من حث على التحول إلى الكتابة بالعاميات الإقليمية داخل البلاد العربية المستشرق الألماني الدكتور “ولهلم سبيتا” وقد شغل مديرا لدار الكتب المصرية في كنف الاحتلال البريطاني، ففي سنة 1880م خط كتابا سماه “قواعد اللغة العربية العامية في مصر” أشار فيه كذلك إلى فتح العرب لمصر سنة 19هـ وانتشار لغتهم التي قضت على اللغة القبطية لغة البلد الأصلية -حسب زعم هذا الزاعم-، وطبعا هدفه من ذلك إثارة النعرات العرقية ضد اللغة العربية.
ثم كان من بعده المستشرق الألماني “كارل فولرس” صاحب كاتب “اللهجة العربية الحديثة” والذي وجه فيها العرب لاستعمال الحروف اللاتينية لدى كتابة العامية، مع محاولة دراسة قواعدها فيه.
وأنا أسال هنا: ما الداعي لاستعمال الحروف اللاتينية في اللهجة العربية؟
وطبعا الجواب يسبق إلى العقل قبل الانتهاء من السؤال، إذ أراد أن يقطع المصريين -في مخطط سيشمل باقي الدول العربية المسلمة- ليس عن لغة الوحي وحسب، وإنما عن حروفها وخطوطها التي تثير في سليم الفطرة الاشتياق الى تَبَصُّرِ نور السماء وعمل التدين، ثم هل كانت لهذه اللهجة/العامية قواعد حتى تدرس؟!
اللهم إن هذا كذب، وإن شاء الدكتور (كارل فولرس) أجابنا من قبره!