خلال أيام قليلة، ودّع الوطنُ علماءَ أجلّاءَ، ومن أبرزهم عالمان ارتقيا واحدا عَقِبَ الآخر بفارق يوم واحد، سيدي الفقيه محمد التطوانيّ، وسيدي محمد المربَّح. رحمهما الله جميعا وأجزل لهما الثواب.
منارتان من منارات العلم والهدى بجهتنا الشرقية. وكلاهما كان له الفضل -بعد الله تعالى- على رعيل من شباب الجهة والوطن: تعليما وتفقيها وتربية وتزكية. ولعل الله تعالى قد اطّلع على سَريرَتيْهما، وعَلِم حُسنَ بلائهما وسعيهما، فأخذهما في زمن الوباء، رِفعةً للمقام، وتقريبًا من منازل الأنبياء والشهداء.
عالمان جليلان لا يعرفهما إلا تلامذتهما، ومحبّوهما، وأقرانهما ممن بقي من العلماء أحياءَ أطال الله أعمارهم وثبَّتَهم على الحق. وما يزيدُ ألَـمَ الفَقْد والرحيل، حين يموت العلماءُ مع عموم وَعْيٍ غائب، وشُرود ذِهنيٍّ حائر، فتلك مصيبةٌ لا يعلم جسامتها إلا من عرف اللهَ بمعرفة العلماءالذين كانوا يصنعون الوعي، ويبنون الفكر، ويُزكّون السلوك، ويُرشدون إلى معالي الأمور.
فكم على أيديهما تخرّج من فقيه، وكم بتوجيههما صعد من عالم، وكم من أئمة نالوا تزكية العلم والإمامة بشهادتهما التي تعدل شهاداتِ جمٍّ غفيرٍ من البشر الذين يحسب الناس أنهم على شيء.
يترجّل عالمانا الجليلان واحدا على أَثَر الآخر، على غرار أقرانهم ممن رصّع التاريخ أسماءهم بماء الذهب الخالص الذي لا يبلى ولا يحول.
رحلا عنّا، تحفُّهم شهادة صدق، فقد كان لهما مكانٌ جليٌّ، وسَـمْتٌ حَيِيٌّ، ومقامٌ عَلِيٌّ لدى منهومي العلم والعامة ممن يعرفونهم عن قرب، ولذلك تعددت المساوئ والنكبات في الواقع الحاضر، ليس بموتهما وموت أقرانهما من العلماء فقط، -فكل الناس يموت-، ولا بغياب العدل بين الناس، فقليلٌ مَنْ يُنْصَفون، ولا بتحقيق الكرامة فقليلٌ مِمَّن يُكَرَّمون، ولا بالإحساس بالانتماء للوطن، فقليلٌ مِمَّن يَشعرون، وإنما تُسَعَّرُ الفواجعُ، حين لا يعود للعلماء صيتٌ ذائع، ولا تأثير بالغ، بل حتى حين يغادرون حياة الناس، لايُأبَهُ برحيلهم، ولا يُلتَفتُ إلى الثُّلمة التي خلّفوها من ورائهم، ولذلك يقول الحسن البصري: “موتُ العالم ثُلْمَةٌ في الإسلام لا يَسُدُّها شيءٌ ما اختلف الليلُ والنهارُ”.
في حين يموت السَّقَطُ من الناس، أو “النجْم” الخافت، والكوكب المظلم، فتحتفي بذكره الركبان، وتُفْتَتَحُ المقالات باسمه بالنعي والتعزية، ليبقى الإصرار على رفعهم في أعين الشباب، فيعيش أحدُهم مذكورا، وإذا مات تحدّثت عنه الصِّحافة شهورا، ومجَّدت أثره وسيرته، وقد يكون أتى في سيرته بالموبقات، وعاش قدوةً سيئةً للذكور والإناث، في حين لم يعد لطليعة المجتمع النابغة اعتبارٌ كبير، وطليعةُ الأمة هم علماؤها الذي يعيشون على الهامش، ويرحلون في صمت رهيب، وكأنَّ حياتهم حياةٌ عادية، لا يميزها بذلٌ ولا عطاء ولا إنجاز.
أليس ذلك من علامات الساعة التي أزِفَت؟ ومن مظاهر أُزوفها تَبَدّلُ الموازين، وتغيُّر المعايير، فيصبح الرقمُ الصِّفريُّ “نجمًا”، و”الفاعلُ السياسيُّ” بطلاً، حتى وإن تَزَيّى بِرِبْقَة الدَّنَس، فتتجنّد المنابر احتفاءً بهذا، وتنقيصًا من ذاك، وكأنّ معركة الوطن معركة حكم وحكومة، وتدبير وتسيير، في حين يغدو العالم النِّحرير “رقما مُهمَلا” في وطن يَعُقُّ علماءه، وهم الذين صاغوا أمنَه الروحيَّ، بالعلم والمعرفة، ومع كل الإنجاز يبقى الإصرار على التهميش، والتغافل والعقوق، حتى مع الزعم بتسويق الاحتفاء الذي يجافيه الفعل، لكنّ العزاءَ في موعوداتِ ربّ العالمين، بأنْ قَرَنَ العلماءَ باسمه واسم ملائكته، ورفع قدرهم عليّاً، وورَّثهم مقام النبوة والشّرف.
رحم الله العالميْن الجليليْن، وأسكنهما فسيح الجنان، وأعظم أجرَ مُحبّيهم وحواريّيهم وأهليهم، ومَنْ عاصرهم علمًا وشهودًا وإحسانًا. والحمد لله على ما أعطى وله الشكر على ما أبقى.