آيات تفهم على غير وجهها سورة البقرة -3- إبراهيم الصغير

– قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} (من الآية: 200).
هذه الآية تفهم على غير وجهها، إذ لم نعرف صفة «ذكر القوم آباءهم» الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكراً.
قال الطبري: «قال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم»، وذكر أقوال أنس، ومجاهد، وأبي وائل، وقتادة، وعكرمة، في ذلك.
وقال آخرون: «بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ»، وهذا قول عطاء، والضحاك، والربيع، وابن عباس.
وقال آخرون: «بل قيل لهم: {اذكروا الله كذكركم آباءكم}، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم، فأمروا بذكر الله بنظير ذكر آباءهم»، وهذا قول السدي في تفسيرها.
وبعد سرد هذه الأقوال يعقب الإمام الطبري قائلا: «والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قضاء مناسكهم. وذلك الذكر جائز أن يكون هو التكبير الذي أمر به جل ثناؤه بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (سورة البقرة: 203) الذي أوجبه على من قضى نسكه، فألزمه حينئذ من ذكره ما لم يكن له لازما قبل ذلك، وحث على المحافظة عليه محافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه».
– قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد} (الآية: 207).
كلمة {يشري} تلتبس على البعض فتفهم على غير وجهها.
فيشري نفسه: أي يبيعها، لأن يشري في اللغة العربية تعني: يبيع، بخلاف كلمة يشتري؛ كما أن يبتاع تعنى يشتري بخلاف كلمة يبيع.
ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} وقوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي يبيعون.
– قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَاٌ} (من الآية: 233).
قد يعتقد البعض أن الفصال المذكور في هذه الآية بمعنى الطلاق، بينما هو الفطام.
قال البغوي: «وقال قوم هو حد لكل مولود، بأي وقت ولد لا ينقص رضاعه عن حولين إلا باتفاق الأبوين، فأيهما أراد الفطام قبل تمام الحولين ليس له ذلك إلا أن يجتمعا عليه لقوله تعالى: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور}، وهذا قول ابن جريج والثوري، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا».
قال القرطبي: «وفصالا معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات».
والفصال والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل، لأنه مفصول عن أمه.
قال الماوردي: «والفصال: الفطام، سمي فصالا لانفصال المولود عن ثدي أمه، من قولهم قد فاصل فلان فلانا إذا فارقه من خلطة كانت بينهما».
فالفصال المذكور في الآية هو فطام الصبي وفصاله عن ثدي أمه، لا الفصال بين الزوجين.
– قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (الآية: 239).
{رجالا} مشاة على أرجلهم، وليست لتحديد الجنس.
قال العلامة السعدي: «{رجالا} أي: ماشين على أقدامكم».
فرجالا جمع راجل لا رجل؛ وفي لسان العرب: الرجال: جمع راجل أي ماش، والراجل خلاف الفارس.
قال أبو زيد: «يقال رَجِلْتُ، بالكسر، رَجَلًا أي بقيت راجلا».
والعرب تقول في الدعاء على الإنسان: «ما له رَجِلَ» أي عدم المركوب فبقي راجلا.
– قوله تعالى: {فإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (الآية: 282).
{تضل} بمعنى تنسى، وليست من الضلال والضلالة.
قال الثعلبي: «ومعنى قوله: {أَنْ تَضِلَّ} أي تنسى، كقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} وقوله: {قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}».
فتضل هنا بمعنى تنسى وذلك مؤكد بما بعدها: {فتذكر} أي بعد النسيان.
قال الحافظ محمد بن عبد الرحمن الإيجي: «{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي: إن نسيت إحدى المرأتين الشهادة، ذكرتها الأخرى».
وقال ابن الجوزي: «والضلال هاهنا: النسيان، قاله ابن عباس، والضحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة».
وقال البغوي: «ومعنى تضل أي تنسى، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها، تذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا؟».
وقد مر معنا أن من معاني الضلال في القرآن: النسيان، وهو المقصود هنا.
والله تعالى أعلى وأعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *