لقد أدرك أعداء الإسلام، منذ بيتر المبجل في القرن الثاني عشر الميلادي، أن سر قوة المسلمين هو كتاب رب العالمين، الذي حفظه من التحريف أو الدرس، حتى يشاء سبحانه وتعالى، حيث قال الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه: “يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولانسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: “لا إله إلا الله”، فنحن نقولها.”[1].
ويأبى أعداء القرآن من الداخل والخارج إلا أن يحاولوا المحاولة تلو الأخرى للنيل منه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويحفظ كتابه.
يقول المُبَشر “وليم جيفورد بالكراف”: “متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه”.
ويقول المبشر تاكلي: “يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً .”
وحتى لا نُتَّهَمَ بأننا نتجنى على الحداثيين، من بني جلدتنا، فهذه أفكارهم تفضحهم، وتكشف عقائدهم جلية واضحة لمن يجهلها، والجلاء والوضوح هنا ليس المقصود بهما في ذاتها، بل المقصود بهما هو أنها جلية واضحة في تناقضها مع عقيدتنا، عقيدة التوحيد الإسلامية.
فهذا محمد أركون يعتبر “العقل القرآني” عقلا لا علاقة له بالعقل المنطقي أو الفلسفي، ويصفه بالعرفاني الذي يقر بوجود العجيب الغريب باعتبارهما دعامة “للأنطلوجيا[2] القرآنية” ولفكرة الخلق.
يتحدث أركون عن مسألة “تاريخية النص القرآني وتشكله”، لأن مشروعه المسمى “الإسلاميات التطبيقية” يروم إعادة قراءة التراث الإسلامي -حسب زعمه- قراءة “علمية”، ولا يستثني من ذلك القرآن الكريم، فضلا عن الحديث الشريف والسنة المطهرة والتفاسير، وعلى رأسها تفسير الطبري، على غرار ما حققه العقل الأوربي الحديث والمعاصر[3]، من إحداث القطيعة مع المضامين اللاهوتية، وكل أشكال الانحرافات العقدية، وذلك بإعادة ترتيب بيته التشريعي، بفضل جهد مفكريه وفلاسفته.
وإن هَمَّ هذا المشروع الأركوني هو خلخلة المحرمات الفكرية، واختراق اللامفكر فيه، قصد تجاوز كل ذلك إلى أفق الحداثة “الرحب”، إنه يجزم القول بأنه لا يمكن بناء الحداثة دون تصفية الحساب مع “التراث الثيولوجي”، بل ويرجع -بجرة قلم- ظاهرة “العنف والتطرف” إلى شيوع التفسير الحرفي للنص الديني، زاعما أن هذا التفسير يلجأ إلى بتر الآيات عن سياقاتها، وتحويل آثار المعنى إلى معنى مطلق لا يطاله التغيير، عكس ما يستهدفه هو من إشاعة إسلام مبني على العقل المحمل ببذور التنوير، نازعا مشروعية تدبيره عن حراس التفسير الحرفي والظاهري، قدماء ومحدثين.
ولأن الحداثة لا تنفك عن العلمانية، لتلازمهما تلازم الروح والجسد، فهو يؤكد على جعل الإسلام شأنا شخصيا لا دخل للدولة أو حتى الجماعة فيه، وهذا لعمري تحنيط ثالث يخص الإسلام هذه المرة بعد تحنيط الإسلاميين والشعوب الإسلامية[4].
إلا أن العائق أمام مشروعه الحداثي، حسب اعتقاده، يكمن في أنظمة العقائد الإيمانية، والأعراف الاجتماعية، والقيم الأخلاقية والقانونية التي تسيطر على المجتمع الإسلامي، ويخضع لها، سواء من الطبقات الشعبية أو المثقفة.
إنه يريد؛ بهذا المشروع؛ أن يزحزح مفهوم الحقيقة المطلقة من قلوب المسلمين، وذلك بتفكيك مسلمات التفسير اللاهوتي التقليدي، الذي يؤدي، كما يزعم، إلى “أسطرة القرآن”، برفع “عباراته” إلى مرتبة التعالي المقدس، فتفقد صفتها التاريخية، لذلك يحتج على تنصيب القرآن الكريم مرجعا أعلى ونهائيا للبشر، وجعله يحتوي على الأجوبة والحلول النهائية للأسئلة التي يطرحها المسلمون في كل زمان ومكان.
مسكين أركون هذا، وقد رحل إلى الميتافيزيقا، ولم تمنعه “حداثته” أو “إسلامياته التطبيقية”، من الرحيل من عالم الحداثة إلى عالم اللاهوت، مسكين لأنه يزعم أن البشر هم الذين يجعلون من القرآن مقدسا ومتعاليا ومرجعا أعلى ونهائيا، وليس أن القرآن هو كذلك في ذاته، لأنه غير مخلوق، ولأنه كتاب رب العالمين.
كان أركون يسعى من “قراءته النقدية” للقرآن الكريم! إلى إزالة طابع التقديس عنه، وذلكحسب زعمه، بربطه بشروطه التاريخية والثقافية واللغوية، أي اعتبار القرآن الكريم من التراث الفكري، وليس مفارقا ولا متعاليا ولا منفصلا عنه.
إنه كان يتعامل مع القرآن، كتعامله مع أي نص بشري، بدافع الحداثة.
كما يعتبر أن للوحي مستويين: مستوى متعال وأزلي، وهو غير معروف لأنه موجود في أم الكتاب، ومصون في اللوح المحفوظ، وهذا المستوى واحد بالنسبة لجميع الأديان[5].
أما المستوى الثاني فيكمن في التجلي التاريخي الثقافي للوحي، في ثلاثة كتب دينية، هي: التوراة والإنجيل والقرآن.
كما يعتبر أن ترتيبَ السور ترتيبٌ عشوائيٌّ واعتباطيٌّ، لا يخضع لأي اعتبار منطقي أو تسلسل زمني، مما يجعل الحاجة ملحة إلى معرفة شروط وظروف تشكل “النص القرآني”، ومن ثم إعادة ترتيب سوره وآياته، وفقا للتسلسل الزمني للوحي!!!
ويؤكد على أن القرآن الكريم مكتوب بلغة بشرية طبيعية، وخاضع لإكراهاتها النحوية والصرفية واللفظية والبلاغية والدلالية، كما هو خاضع للإكراهات الاجتماعية والثقافية للبيئة التي ظهر فيها!!!
ويعتبر أيضا أسباب النزول التي يستعملها الفقهاء، مجرد “تلاعبات سيميائية”.
إن أركون هذا، كان يتبجح بأنه يُخْضِعُ القرآن الكريم، الذي يسميه “النص القرآني”، لمحك النقد التاريخي المقارن، وللتحليل الألسني، وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى، كما كان يتباهى باستعماله عدة علوم ومناهج غربية، وهو المتشبع بما لم يعط، لأنه عالة على أسلافه الغربيين الذين ينهل منهم؛ أمثال: ماركس وفرويد وستراوس وباشلار وألتوسير وبارث وفوكو وديريدا وبورديوه.. وغيرهم، وكان يعمل جاهدا على تعميم مشروعه الحداثي، من خلال دعوته إلى تلقينه للطلاب في الثانويات.
خلاصة القول إن أركون يعتبر القرآن الكريم مجرد نص كأي نص، يجب في نظره “إخضاعه” لنسبية الزمان والمكان، وللشروط التاريخية التي “ظهر” فيها، مما يجعل منه نصا لا يحمل أي قداسة، وهذه الدعوى -لعمري- أشد من دعوى خلق القرآن الكريم!!!
إنه يشترط لدخولنا في الحداثة… تحررنا من قداسة القرآن الكريم!!!
————————–
[1] صحيح على شرط مسلم.
[2] إن وجد القارئ الكريم مثل هذه الترجمة الممسوخة،فهو مجرد نقل لا نتبناه.
[3] هذه هي أصوليتهم.
[4] كأن القوم مهووسون بالمومياءات الفرعونية، وصدق من قال: الجنون فنون.
[5] هذه آلية من آليات التقية الحداثية التي يستعملها، لخلط الأوراق، وفتح إمكانية التأويل.