أدعو الله أن يستدرك أنصار الشرعية ما فات، لأنهم كانوا متخلفين عن سرعة الفلول، بل وكانت لهم ثقة في غير محلها، استنادا لتحليلات خاطئة، كانت في الأصل مجرد أماني، جعلوا منها وقائع، بمعنى أن العسكر كان ماكرا في خلع الطاغية، لأنه كان متأكدا من أنه سيرجعه، مادام هو الماسك الفعلي بالسلطة، وقد ظهر أنه ليس مع الثورة، إلا ظاهريا، امتصاصا للغضب والإجماع اللذين حظيت بهما.
والدليل هو الغضب والغيظ اللذان كانا يعلوان وجه الضابط الذي “حيى” الشهداء، ثم بدأت المناورات العسكرية السياسية بعد 25 يناير، سواء بعمر سليمان أو أحمد شفيق أو حكومة الجنزوري، هذه المناورات لم تكن على مستوى المركز فقط، بل كانت حتى على مستوى الأطراف، والهوامش، وأقصد بها عمرو موسى والبرادعي، لأن عمرو موسى فلولي بامتياز، أما البرادعي فكان أمريكيا للنخاع، وكلاهما خطر على الثورة.
لقد نجح نظام الفلول في إلهاء الثوار، ثم بدأ في شق صفوفهم، وكان يستميلهم بالتناوب، والكل وقع في فخ الاستمالة، بحسن نية أو سوء نية، لأنه إذا أحسنا الظن، قلنا إن ثقتهم بالعسكر كانت عمياء، وكان مستبعدا بشكل مطلق غدره أو خيانته، مع أن طنطاوي لم يكن يوحي بهذه الثقة على الإطلاق.
وهكذا انشغل الثوار بأمور جزئية، ثم بدأ الإعلام ينقلب شيئا فشيئا، من دعم الثورة، إلى دعم الفلول المتدثرين بثوب الثورة، وشرع ينتقد الإخوان، ثم الإسلاميين، وانخرط بعض الثوار في هذه المؤامرة، ولما تأكد إعلام المارينز من أنه أحدث الفجوة المرجوة، ولو أنها كانت صغيرة حينئذ، لكن النار من مستصغر الشرر.
هنا بدأ التراشق بين الثوار، فاهتبل إعلام المارينز الفرصة جيدا، وبدأ هجومه الواسع، ودخل في الخط ليس الثوار العلمانيون فقط، بل كانت قاصمة الظهر، لما ادعى حزب النور أن الرئيس مرسي يعمل على أخونة الدولة، كما زعم أن لديه قائمة بـ17 ألف إخواني دس بهم في دواليب الدولة، فانشغل الإخوان ومن يساندهم بالدفاع عن أنفسهم، وإثبات حسن نواياهم، دون أن يتبقى لهم من الوقت ما يخصصونه لتحقيق أهداف الثورة، فضلا عن إعادة بناء الدولة.
ومع مرور الوقت، وتصعيد إعلام المسيح الدجال من هجومه، معتمدا بشكل كبير على الكذب والأراجيف والافتراءات والإشاعات، وتغيير الحقائق، وتضخيم الوقائع، مع شيء من الإثارة، لجذب المغفلين، كما يجذب نور النار الفراش إلى حتفه، فبدأت همة الناس العاديين تفتر، أما أصحاب المشروع الإسلامي فأضحى حنقهم على الرئيس، وجماعة الإخوان يتصاعد، ليس لتصديقهم الإعلام الموجه فيما يفتريه، بل على العكس من ذلك تماما، كان حنقهم بسبب ضعف الرئيس في مواجهة هذه الآلة الإعلامية الجبارة في الكذب، وسوء الخلق، إضافة إلى تسويغ الإخوان وبعض الإسلاميين لكل تقاعس يصدر من الرئيس وحكومته.
بل ازداد الحنق لما كان يسارع في ترضية الخصوم الذين لم يدر بخلده لحظة أنهم سيكونون أعداءه، وسيتآمرون عليه، بمشاركة أعداء الثورة، ليس للإطاحة به بشكل ديمقراطي فقط، بل بواسطة انقلاب عسكري، وليس للوقوف عند الإطاحة، بل لاستئصاله هو وجماعته، في أفق استئصال الإسلاميين جملة وتفصيلا، كي يتسنى لهم استئصال الإسلام من شأفته.
لم يدر بخلد الرئيس ولا جماعة الإخوان كل هذه المؤامرة، فاستمر في الترضية، وبدأ في التراجع عن قرارات اتخذها، وكلما فعل ذلك، ضعف أكثر، وتجرأ الأعداء أضعافا.
فبدأوا يدعون الثورية، ويوزعونها على من يشاءون، ويسحبونها ممن يشاءون، وفي نفس الوقت ينحازون إلى الفلولية، باعتبارهم تحقيق بعض مطالب الثورة استبدادا من الرئيس، وانطلت هذه الحيلة على بعض ثوار الأمس، فانخرطوا هم أيضا في حفر قبر الثورة، وبعث الفلولية من جديد، دون أن يشعروا بذلك، على الأقل بعضهم، وإلا فإن البعض الآخر كان مندسا للانقضاض التام عند حلول اللحظة الفارقة المبيتة، لحظة 30 يونيو، و3 يوليوز.
إذن، بعد كل هذا الإحباط الجديد، والذي انضاف إلى الإحباط التاريخي الذي أصاب الأمة لعدم تطبيق شرع ربها، لابد لأي مسلم يؤمن بالمشروع الإسلامي، ويريد الانخراط في السياسة الفعلية الإجرائية، لابد له أن يكون داهية، وإلا سيذهب جهده سدى، كجهد التي نقضت غزلها، لا يكفي أن يكون الرئيس مخلصا، بل لا بد من أن يكون قويا في الحق، لا مستبدا، ولا “مستبدا عادلا”، كما يحلو للبعض أن يصف به من يؤيده، وصفة الدهاء ليست مطلوبة لأن العدو داهية في الذكاء، بل لأن حجم التكالب عظيم، ومبلغ الإجرام والوحشية لا مثيل له.
إن خطأ الثورة المصرية بدا منذ البداية، لأنه إما أن تكون ثورة أو لا تكون، لأن نصف ثورة ليست بثورة، بل أفضل منها المكوث في المنازل. فالثورة المصرية لم تكن جذرية، ولم تعلن الشرعية الثورية منذ البداية.
لقد كانت الثورة المضادة متأهبة ومستنفرة إلى أقصى حد، لأنها بدأت، على الأقل، منذ اليوم الأول لخلع مبارك، وقد اتضح، بما لا يدع مجالا للشك بعد الانقلاب أن الخلع كان انسحابا تكتيكيا ليس إلا، استعمله العسكر لامتصاص فورة الثورة، لأنه لم يكن ليتخلى عن أحد منتسبيه، وهو مبارك، وهذا ما تجلى واضحا أيضا، بعد الانقلاب، لأن جميع الألوية المتقاعدين الذين تحدثوا للإعلام كانوا يدافعون عن المجازر، فوفاؤهم ودفاعهم ليس للشعب كما يدعون، وإنما هو لبعضهم البعض، ولمؤسسة العسكر دون أدنى تحفظ، كما قال أرسطو: الشبيه يحن للشبيه.
إن خطأ الثورة الكبير هو خلطها بين الإصلاح الذي يعني في المفهوم السياسي الترميم، وبين الثورة التي تعني التغيير الجذري.
فلو كانت الثورة تغييرا جذريا لأحدثت محاكم ثورية، ولما وثقت في قضاء الفلول الذي كان من بين الوسائل العتيدة لهدم الثورة، أو قل إنه كان عماد الثورة المضادة بلا مناوئ، لأنه لو تم تجميد هذا القضاء، والثورة في عز أوجها، لتم التخلص تباعا من أركان الثورة الأخرى، وهي الإعلام والداخلية، وذلك بالأحكام التي ستردع هؤلاء من الشطط في استعمال الحرية والسلطة، أما الجيش فكان حينئذ، لايزال يخاف على سمعته التاريخية، ولم يكن ليجد الدعم من أحد لو تدخل بعنف.
إذن، فمادام قد وقع ونزل، ورأى أهل الشرعية ما وقع من مجازر، وتكميم للأفواه، ومداهمة للبيوت الآمنة، والاعتقال بالجملة، بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان، واغتيال السجناء، والتعذيب في السجون، والأحكام الجاهزة، وتقييد حرية المحامين، وإخلاء سبيل المجرمين، خلال كل مراحل الثورة، وهلم جرا من هذه الوحشية التي لا مثيل لها.
بعد هذا كله أصبح من المستحيل التراجع، أو النكوص، لأن ذلك يعني الانتحار السياسي، والانتحار الوجودي معا.
إن الانقلاب العسكري بدت أنيابه، وكشف عن وحشية نواياه، والتي تتمثل في استئصال الإسلام والمسلمين من على أرض الكنانة، وتعويضه بإسلام يشبه إسلاما روج له التتار منذ مئات السنين، مسلحين بعلماء السوء، الذين يقلبون الواقع رأسا على عقب، ليتلاءم مع النصوص النبوية، فيجعلون الرئيس الشرعي منقلبا على الشرعية، والانقلابي شرعيا، كمن يجعل الناسخ منسوخا والعكس، فضلا عن تسلحه بما ينبغي أن يستعمل ضد العدو التاريخي في فلسطين.
إذن، ما على أهل الشرعية إلا أن يكونوا كما قال المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد — فمن العجز أن تموت جبانا
أي أن الابتلاء واقع لا محالة، فالأجدى أن يقع وأنت في المعركة، وليس متوليا عن الزحف، والمعركة كما هو معلوم -إلا عند المغرضين- معركة سلمية من جانب واحد، والتولي هو الاستسلام المجاني لإجراءات الانقلاب الوحشية، دون تدافع، وهو خيانة لدماء المظلومين، بل إن التدافع يحمل في طياته أمل الاستنزاف الذي يفضي إلى تآكل قوة العدو، مع ازدياد جرائمه، وانفضاض حلفائه من حوله، توبة أو نفعية.