عندما يباركنا الأمريكان! أم هالة

عندما تنوه أمريكا بالسياسة الدينية لدولة ما، وبالضبط دولة تدين لله عز وجل بالإسلام، فلا شك أن هذا التنويه هو بمثابة وسام شرف على صدور محبيها من بني علمان، ولكنه سبة لا يراها إلا من يثق بربه وخالقه وهو يقول: “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”، ثم علمنا سبحانه الجواب فقال: “قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى”، ثم توعد الذين يتنكبون عنه قائلا: “وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ” البقرة.
لا يخفى على أي عاقل أن النصرانية دين محرف، ولا أدل على ذلك من كثرة الأناجيل، حتى إن الرهبان كانوا يكتبون ما يجيش في صدورهم، وينسبون ذلك إلى الكتاب المقدس، مما سهل تجاوز هذا الموروث الثقافي وحصره في الكنيسة, في إطار تراتيل وشعارات الحب والخير والرحمة، وهذه المأثورات عن الدين النصراني على قلتها لم تمنع الرئيس الأمريكي الأسبق من ترديدها في خطبه منوها بعقيدة الثنوية في الخير والشر حتى إنه ليسوقه الحماس أحيانا إلى أن يقول إنه يخوض حربا صليبية..
هذا الواقع الذي عاشه ويعيشه الدين النصراني تريد منا أمريكا أن ننزله على الإسلام تحت إطار ما يسمى: “بالصوفية الفرانكوفونية” أي أننا يجب أن نحصر الدين الإسلامي في الزوايا حيث الشطحات والتراتيل والأجواء الروحانية.. بمعنى عقيدة دون عمل، وأي عقيدة؟ في تنسيق بين البلدان الإسلامية وبينها للقضاء على الإرهاب..
لم تكن أمريكا تعبث طوال هذه السنوات؛ فقد قامت بدراساتها وحساباتها وعرفت كيف تحدد خصمها جيدا، صحيح أن الصوفية تيار لا يكاد يخلو منه بلد إسلامي، ولكنها طرق شتى لا تكاد تجد طريقة تشبه أختها حتى في البلد الواحد. فمثلا عندنا في المغرب: الطريقة البوتشيشية والقادرية والمشيشية والدرقاوية والتيجانية.. وكل منها يطعن في الأخرى، لكن التيار الوحيد المتفق في الأصول والفروع والانتماء والمتواجد في كل هذه الدول بل حتى في دول أوربا والولايات المتحدة نفسها هو التيار السلفي الذي يدعو إلى إقامة العقيدة الصحيحة وتنقيتها مما قد يشوبها من البدع والضلالات، فعلمت أن ثمت مكمن دائها وسهم مقتلها، فقامت بالدعوة إلى الحجر عليه بنبرة لا تخلو من شدة أفزعت قلوب بني علمان: “فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ” المائدة.
وإن المرء اليوم ليتساءل: ما قيمة التهديدات الأمريكية في وقت قامت فيه فينزويلا – وهي دولة فقيرة – بطرد السفير الأمريكي لمجرد محاباة دولة صديقة؟؟ بل ما قيمة تلك التهديدات في الوقت الذي يتنبؤ فيه الكل بفقدان أمريكا لمكانتها العالمية؟
ومن الرحمة الأمريكية التي ينشدها العلمانيون أن جاءت اليوم -غير عابئة بمشاعر مسلمين فقراء في بلد مسلم تربطه وشعوب العالم الإسلامي لحمة لا تراها هي ولا عملاؤها لأنها لا تدرك إلا بالبصيرة التي تفتقدها هي ومن على شاكلتها – جاءت تقدم لنا برنامجا دينيا يخدم مصالحها هي ويفصلنا في الوقت ذاته عن بعضنا البعض في منطقة العالم الإسلامي؟
طبعا لم يكن اللوم منصبا على أمريكا، فهي على كل حال خصم يعرف كيف يحدد خصمه ويقيده بالطريقة التي يريدها، ولكن اللوم يقع على بني جلدتنا الذين يدينون بديننا إذ كيف يندرس الإسلام فينا وعندنا كتاب ربنا غضا طريا لم يحرف، بل وعندنا كلام نبينا صلى الله عليه وسلم محفوظ صحيح متواتر، وآلاف المؤلفات الإسلامية.. لقد نسي هؤلاء أن مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، نسي هؤلاء تلك الدماء البريئة التي أهريقت لمجرد تخليص شعب من حاكمه.. فيا للرحمة؟؟
لئن نسي هؤلاء فلن ننسى تلك الوجوه المسلوخة من أهل السنة، ولن ننسى تلك الأجساد التي نخرت بالمثقاب الكهربائي، لن ننسى سجن أبو غريب ومعاناة نزلائه تحت سمع وبصر دولة الرحمة –زعموا- ولكن تلك سنة المحتل مع عملائه بعدما يمكنون له ليعيث في الأرض فسادا.
إن جراحنا لم تندمل بعد وإن قلوبنا ما تزال تثعب دما على إخواننا في كل بؤرة من الأرض دون أن أعرج هنا على فلسطين، وألف آه على فلسطين..
وأخيرا، أيها العلماني أنت اليوم أحوج ما تكون إلى الإجابة عن سؤال لطالما طرح على عوام الناس: من أنت؟ وماذا تريد؟ أعرف أن قلبك سينصدع إن قُلْتُ: أنت مسلم وأنت عربي مغربي، لأنه تعريف يفصلك عن قوم تحبهم ولا يحبونك، “هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ” آل عمران.
لعلك يرضيك أن أقول: أنت إنسان وحسب، اسمع إلى رب تؤمن به يقول لك: “يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ” الانفطار، ويقول: “يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ” الانشقاق، إنه يخاطب فيك الإنسان الذي يرتقي بمعارفه ومداركه وأخلاقه وإيمانه إلى مستوى الإنسانية لا إلى مستوى البهيمة التي تشبع رغباتها علنا من أكل وشرب وجنس، دون عقل تدرك به ما ينفعها وما يضرها وتميز صديقها من عدوها. قال تعالى: “أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” الملك، في إشارة لطيفة منه سبحانه إلى سبب خلقه البهيمة منكفئة على وجهها وسبب خلقك رافعا بصرك إلى السماء لتسمو منزلتك.. فإن عرفت من أنت، عندها فقط ستعرف حتما ماذا تريد.
ولا تقل: إني فقير أريد الغنى أو متخلف أنشد التقدم. فقد قال عز وجل: “بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً” النساء، نعم من حقك أن تطمح إلى بنيات تحتية كبنياتهم، طرق واسعة كطرقهم، مواسير مياه كمواسيرهم، وسدود كسدودهم. من حقك أن يكون في بلدك طائرات كطائراتهم، ومعدات دفاعية كمعداتهم. من حقك أن تحلم بأقمار اصطناعية كأقمارهم.. لكن ليس من حقك أبدا أن تتنكر لتاريخك وحضارتك لأجلهم، ليس من حقك أن تعرفهم وتنكر نفسك.. عار عليك أن تقبل قوما بكل سيئاتهم، وتتخلى أنت عن كل مزاياك حتى يقبلوك، حتى لو فعلت فلن ينسوا أبدا أنك تجري فيك دماء مسلمة، وما التجربة التركية عنك ببعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *